«قصة السجادة.. كلمني صديق قديم ليلة البارحة بالتلفون. قال: ألو، الأستاذ ابلال السجاد؟ عرفته بمجرد أن قال السجاد.. قلت نعم، مرحبا.. وبعد السلام وما يليق من ألفاظ المودة والإكرام؛ وحديث طويل وعريض حول العالم. قال لي: السجادة بخير، ما زالت قائمة ثابتة صامدة..
.بعد حديث البارحة، ارتأيت أن أسجل هنا في صفحتي على الفيس قصة السجادة؟ بعد شهر تقريبا من وصولي مدينة الدوحة (2008) تشرفت وسعدت بحضور حفل عشاء أقامه الفريق الدبلوماسي الإفريقي المعتمد لدى دولة قطر ترحيبا بسفراء جدد، هم سفراء روندا والكونغو الديمقراطية وموريتانيا. وتقرر في الاجتماع تنظيم زيارة مجاملة لمقر "الجزيرة" تقديرًا لمسارها المهني الرائع.
وأوصى عميد السلك الأفريقي، سفير اريتيريا بأن يحضر كل سفير هدية رمزية من بلده تكريما للقناة. واقترح مهلة 4 أشهر حتى يستعد الجميع. بدأت أفكر في أي هدية أقدمها؟ أبراد؟ إلويش؟ راحلة ولبدتها؟ سرج فرس؟ مخطوطات؟ صندوق من الصناديق التقليدية؟ خنجر؟ هذه كلها هدايا جميلة ترمز لثقافة البلد و وذكاء ومهارة الإنسان الموريتاني. كنت حائرا ومترددا أمام كثرة وتنوع الاختيارات المتاحة.
قلت في نفسي، لا بد أن أختار هدية تذكارية تجمع بين الأصالة والحداثة، وتعكس عبقرية وتميز شعبنا، وتخاطب الوجدان، وتغري العين والمؤثرات الحسية بجمالها و رونق ألوانها.. وبعد طول تفكير خلصت إلى أن أستغل أصابع المرأة وعقلها وعبقريتها وطموحها وإبداعها، وأجعلها عنوانا لموريتانيا في ذلك الملتقى الدبلوماسي الناعم.
فاتجهت إلى مركز الزرابي في "لكصر"، و تحدثت مع المديرة العامة السيدة فيفي منت افيجي حفظها الله.. وبعد أخذ و رد وتشاور مع العاملات بالمركز اتفقنا على نسج "زربية" من الدرجة العليا، منسوجة باليد وبأغلى وأجود أنواع الصوف.
ويكون في وسطها شعار (لوغو) الجزيرة بأحرفه وزخرفته وألوانه. وفي أقل من ثلاثة أشهر، هاتفني مسيّر المركز بانتهاء العمل وبأن السجادة جاهزة.
كنت حينئذ في الدوحة. أذكر أنني فكرت قليلا، ثم اتصلت برجل الأعمال محمد ولد بوعماتو وأخبرته بالموضوع. قام جزاه الله خيرا بما يلزم من دفع وشحن ونقل الزربية بالطائرة حتى وصلتني. فإذا هي لوحة فنية وتصويرية رائعة تعكس مدى عبقرية المرأة الموريتانية التي أبدعت فيها بكل أناملها الرفيعة. وبعد إشعار سعادة العميد وعن إذنه، أخذت موعدا مع السيد وضاح خنفر، مدير عام شبكة الجزيرة في ذلك الوقت.
وحضرت رفقة أحد الدبلوماسيين لا أدري هل هو محمد عبد الله ولد الشيخ الحضرمي رحمه الله أم المستشار محمد ولد عمار، حفظه الله. استقبلنا السيد وضاح خنفر بحفاوة وأريحية محاطا ببعض معاونيه. ولما رأوا السجادة ، وقفوا حائرين ومبهورين لجمالها وعجيب صنعها. وقال المدير: "لكم أن تفخروا معشر الموريتانيين بالمرأة عندكم و بما تتمتع به من خيال ذاتي وإبداع وذوق فني.
هذه السجادة تفوق بجدارة النسيج الإيراني والتركي والصيني". وأمر فورا بعرضها على الحائط في قاعة الانتظار احتفاء وابتهاجا بزواره. ومنذ ذلك اليوم، صارت بيني وبينه صداقة قوية، وبدأت أسمع منه لقب "السجاد".. بعد ذلك بأسابيع أو شهر على الأقل، قابلت وزير الخارجية حمد بن جاسم، فإذا به يبتسم ويقول: أهلا "بالسجاد".
وصرت معروفا بين السفراء بهذا اللقب في أروقة الخارجية طيلة اعتمادي في دولة قطر. ويجرني هذا إلى التذكير بأن لدينا كنزا تراثيا لا ينضب في مجال الفن والنسيج والموسيقى والرقص وغير ذلك .. مما يمكن أن يكون أداة لدبلوماسية ثقافية جذابة نستطيع بفضلها الدخول إلى قلوب وعقول الناس في جميع أنحاء العالم. نمتلك طاقات وإبداعات مذهلة في فنون وحِرف مختلفة مهددة الآن بالانقراض.
أين نسيج "الوبر" والخيام السود ذات العمائم البيض في "أشرم"؟ أين خياطة الخيام الملونة في المذرذره وبوتلميت؟ أين نسيج الزرابي والسجاد في نواكشوط؟ أين صناعة الجلود (الأغلفة، الفارُ والأثاث مثل "التيزياتن") في لعصابة، والقارورات المزخرفة في الضفة، إلخ.. أؤكد لكم أن الطلب كبير على هذه الأدوات والآلات الفنية الأصيلة عبر العالم. هذا بالإضافة إلى فنون الألعاب القديمة مثل "هَيبْ" أو "شاتْ البارك" ليلا في ساحة ألاگ، والعروض العسكرية القديمة (اترجْلِ) عند أهل "بوره"، إلخ.. إن الرسائل التي تحملها أصابع المرأة وإبداعات الصانع التقليدي وثقافة الألعاب الجماعية تفوق بكثير اللغة العادية التي يتكلمها الدبلوماسيون نظرا لقدرتها على لمس مشاعر الإنسان العميقة.
انظروا مثلا إلى رسائل الصين والروس عبر فرق الألعاب البهلوانية إلى العالم، ورسائل أمريكا عبر الموسيقى والسينما والملابس والطبخ..
انظروا إلى المعارض الفنية والثقافية التركية والإيرانية المتنقلة .. لا شك في أن موريتانيا ستكون أكثر تأثيرا لو اعتمدت شيئا فشيئا على جاذبية الثقافة والفنون والآداب والمخزون الثقافي والحضاري إلى جانب الدبلوماسية التقليدية أو ما يعرف بدبلوماسية ربطات العنق والمجاملات والخطوات المكتومة. ههه وسيقول قائل إن هذا بكاء على الأطلال ... يسو َ طابت أوقاتكم»