لم يكن بودي أن أعلق على بعض الردود التي أثارها البيان الأخير الذي أصدرته السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية غير أن تساؤل البعض عن السبب الذي أيقظ الهابا من نومها جعل من واجبي المهني والأخلاقي أن أقدم للمتسائلين إجابة وافية، لأنني عاصرت الزمن الإعلامي الموريتاني منذ كنت طالبة وحتى اليوم، فقد كنت محررة في جريدة الشعب أيام الصمت الإعلامي الرهيب عندما كانت ضريبة التعبير عن الرأي باهظة جدا
.
ولا يمكن لأحد التعبير عن رأيه أو موقفه في الجريدة إلا بطريقة موغلة في الرمزية...
كنت بعد ذلك رئيسة تحرير جريدة من أولى الجرائد الحرة وذلك عندما كانت حرية الصحافة مجرد استجابة للمطالب التي تفرضها الديمقراطيات الحديثة آنذاك، ولا يتعدى توظيفها إطار الاستهلاك السياسي الخارجي، إذ لم يكن من الغريب أن تصادر وزارة الداخلية باسم المادة 11 أي جريدة أرادت مصادرتها دون تقديم أي مبرر لذلك، فأذكر أنني دخلت ذات صباح على حبيب ولد محفوظ رحمه الله وأنا أحمل ردا على مقال نشره أحد الكتاب المصريين في مجلة خليجية يشتم فيه موريتانيا، وكان حبيب ذكيا ويدرك الهامش الحقيقي الممنوح لحرية الصحافة، فقرأ المقال وابتسم وقال: "لن تكوني أشجع منا فأنت كتبت ونحن سننشر"، وكانت الضريبة أن صودر ذلك العدد من جريدة القلم... وتم تصوير المقال سرا من الجريدة المصادرة وتم تداوله بين القراء..
كانت إذا حرية الإعلام الحقيقية وحرية التعبير عن الرأي من أهم مطالب النخب الموريتانية في العقود الأخيرة فجاء القانون 017 - 2006 حول حرية الصحافة، وقانون 045 - 2010 المتعلق بحرية الاتصال السمعي البصري، استجابة لتلك المطالب، حيث منحت هذه القوانين الحرية المطلقة للصحفيين للتعبير عن ما يريدون ومتى يريدون وبالطريقة التي يريدون أيضا... فظهرت مئات المواقع الإلكترونية وعشرات الجرائد المستقلة ومنحت التراخيص للعديد من القنوات السمعية البصرية...
كان على الدولة لضبط هذا المشهد الإعلامي المتدفق إنشاء هيأة للضبط، فتم بموجب الأمر القانوني 034 - 2006 إنشاء السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية..
كانت هذه السلطة إذا تدرك صعوبة مهمة ضبط مجال يمارس فيه أكثر من ثلثيه مهنة الإعلام من باب الهواية فقط دون أبسط دراية بأدبيات وأخلاق المهنة الإعلامية.. وفي بلد تنعدم فيه المعاهد والجامعات ذات التخصص الإعلامي..
لكن إكراهات الضبط لم تجعل الهابا أبدا تتناسى دورها في ضرورة التساهل والمرونة والعمل على رعاية المشهد الإعلامي وتطويره وتجذير السلوك المهني في الممارسة الإعلامية عموما، فاعتمدت السلطة على تكثيف الملتقيات والندوات والمشاورات، حول مواضيع عديدة ترتبط بالإعلام فنظمت بالتعاون مع السلطات العمومية والفاعلين السياسيين وهيئات المجتمع المدني عدة ملتقيات حول المواضيع المرتبطة بالإعلام عموما من بينها، ملتقى حول مفهوم الضبط والمرفق العمومي حضره كل المهتمين بالمجال، وملتقى حول مسؤولية الصحفي حضره كذلك جميع ممثلي المؤسسات الإعلامية وألقيت فيه محاضرات هامة في المجال.. كما تم تنظيم ملتقى آخر حول ولوج المعلومة وضرورة نزاهة الخبر... وملتقى حول التغطية الإعلامية في الفترات الاستثنائية... إلخ.
وقد استطاعت السلطة العليا للصحافة أيضا أن تكتسب ثقة الشركاء حتى ترأست أعرق شبكة لهيئات الضبط تضم 24 دولة عربية وأوربية وافريقية، هي شبكة الضبط المتوسطية..
كثفت الهابا إذا لقاءاتها الفردية والجماعية مع مسؤولي المؤسسات الإعلامية، وتم من خلال هذه اللقاءات و المشاورات تشكيل مجلس للضبط الذاتي يضم 12 نقابة ورابطة تنتسب لها جميع المؤسسات الإعلامية في البلد وتم توقيع بيان ينص على التزام هذا المجلس بالقيام بعملية الضبط الذاتي والتمسك بجميع القواعد المهنية وتسيير العمل الإعلامي وفق النصوص القانونية المسموح بها حتى يلعب الإعلام دوره كاملا في صيانة المصلحة العليا للوطن وكرامة المواطن، غير أن هذا المجلس تم تعطيله فيما بعد وإفراغه من مضمونه بسبب الصراعات الداخلية...
وكانت الهابا تأمل أن تبلغ هذه التجربة الإعلامية سن الرشد ويصبح بمقدور أصحابها العمل وفق القانون ووفق ما تمليه قواعد المهنة الإعلامية دون رفع عصا الرقابة المشددة في وجوههم..
لكن يبدو أن البعض لم يقدر جهود الهابا ولم يستفد من كل ما سبق ذكره ولم يلتزم بالنقاط التي تم الاتفاق عليها أكثر من مرة مع الروابط والنقابات والتجمعات الصحفية، فخرجت بعض المؤسسات الصحفية عن أدبيات المهنة الإعلامية ونشرت الخطابات التي تجذر النزعة القبلية والفئوية وتدعوا للتفرقة والعنف والصراع العرقي... وانتهكت هذه المؤسسات أعراض الأفراد واستباحت حياتهم الخاصة وأثبتت تورطهم قبل أن تجلس لهم المحاكم، واعتمدت الشائعة كمصدر رئيسي للخبر...
ربما يكون ذلك السلوك غير المهني إذا من بعض الممارسين للمهنة هو ما أيقظ الهابا إن كانت نائمة في نظر من يشغلهم عملهم أو ظروفهم عن متابعة أنشطتها...
وفي الختام ينبغي للصحفيين وخصوصا من تحملوا مسؤولية تصدر الحقل الإعلامي أن يراجعوا النصوص المؤسسة للسلطة العليا حتى يدركوا أنها ليست الشرطة الوطنية ولا مفتشية الشغل ولا نقابة للصحفيين مكلفة بالدفاع عن حقوق العمال في الحقل الإعلامي وأن دورها يقتصر على مهمة ضبط المشهد الإعلامي...
/