النجدة!
.. لقد أصبح التيار الذي أدمنتُ أمس معارضتـه تيارين!
.أينقسم الواحد إلى اثنين؟ نعم. تلك هي سنة الكون. ومن لا يتدبرها، ويحسب لها حسابـها، سيجرفه تيار التاريخ الذي لا يرحم.
في مقالة "شكرا لكم يا سادتي" حمّلت "النخب" مسؤولية الأزمة المتصلة بالمؤامرة على مبادئ الثالث من أغسطس 05، وتزوير إرادة الشعب، وفرض وصاية العسكر والمفسدين عليه؛ ودعوت، وقد جرى ما جرى، إلى الحوار من أجل الحفاظ على سلامة ووحدة الوطن، والوصول إلى حل دستوري للأزمة السياسية المستعصية التي تعصف باستقرار البلاد!
وفي "ما هكذا يا قوم تورد الإبل" ذكّرت المتباكين على الديمقراطية، والمدافعين الجدد عن الحرية، بأربعة أخطاء قاتلة كانت وراء ما أصابنا في ظل رئيسهم "المنتخب" ألا وهي: التآمر على الديمقراطية وقهر إرادة الشعب، إطلاق العنان للفساد ورعايتـه بدل محاربتـه، إهمال الجيش الذي هو درع الوطن وآخر "بقية مما ترك آل موسى وآل هارون" من الدولة، بعث رموز الفساد من مرقدهم وتقديم السلطة إليهم على طبق من ذهب! وطالبت أولي الألباب بمراجعة الذات وتصحيح الأخطاء القاتلة قبل فوات الأوان!
وإني لأرى الآن، من الضروري، وعي وتدبّر الحقيقتين الأساسيتين التاليتين ألا وهما:
أولا: أن الذين جاؤوا بالجيش إلى السلطة سنة 1978، وحكموا البلاد من وراء حجابـه، وظلوا يشكلون خلال ثلاثة عقود من الزمن أبرز وجوه العملة العسكرية الفاسدة، سواء أكان ذلك عن طريق المؤسسات الخصوصية النـهابة، أم لجان التطوع أم هياكل تـهذيب الجماهير وغيرها؛ وكذلك أولئك الذين جاء بـهم الجيش والقابضون عليه مجنّا في وجه بعض الحركات السياسية المزعجة، كل هؤلاء وأولئك، هم آخر من يعطي الدروس في الديمقراطية! ذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن "شرعية رئيس الدولة المنتخب" التي يدّعونـها ويتخذون منـها اليوم قميص عثمان يشنون باسمه الحروب الكلامية ضد تمرد النواب و"تدخل الجيش المنكر" في السياسة، إنما هي شرعية كاذبة خاطئة لا ترقى إلى شسع نعل شرعية تغيير الثالث من أغسطس 05، بله أن تلغيها وتواجهها. إذ أن أصلها وفصلها، وجميع الموريتانيين شهود عيان على ذلك، إنما كان تحالف بعض القابضين على المجلس العسكري وفلول النظام الفاسد من "مستقلين" وغيرهم وبعض السفارات الغربية، والشقيقة أيضا، التي قدمت الدعم المالي، وحاكت التحالفات الضرورية المريبة، التي أحبطت إرادة التغيير!
ومما لا ريب فيه، أن من مصلحة رموز الفساد، اختطاف الرئيس المصطنع وحصاره، وتحريضه على أولياء نعمتـه، و"الثورة" بـه على "الثورة". ولكن، لماذا تتبنى بعض فصائل قوى تغيير الأمس جميع أطروحات النكوص، وإعادة الاعتبار إلى رموز الفساد، إن لم يكن ذلك لحاجة انقلابية من أهدافها البارزة، الولوج إلى السلطة من باب الردة، لمّا لم تستطع اختراق حاجز العجز نحوها بالطرق الديمقراطية؟
نحن في أمس الحاجة إلى الديمقراطية. ولكن الديمقراطية التي نحتاجها، هي الديمقراطية الصحيحة، التي تكسر قيود القرون، وتفتح العيون، وترفع الجبين وتشبع البطون. أما ديمقراطية النفاق والشقاق واختلاس الأرزاق ولي الأعناق فلتذهب إلى غير رجعة مع المبشرين بـها والمتبجحين بانتصارها الوهمي على أيديهم في عهدهم الأسوأ البغيض! ولله إمام المسجد الجامع الشيخ أحمد ولد لمرابط حين أنشد في خطبتـه ردا على بعض هؤلاء قول الحارث بن وعلة الجرمي:
الآن لمـا ابيــض مسربتــي ** وعضضت من نابي على جذم
وحلبت هذا الدهر أشطــره ** وأتيـت مـا آتـي علـى علم
ترجو الأعادي أن ألين لها؟ ** هــذا تخيـل صاحــب الْحُلــم!.
ثانيا: أن على قادة الجيش والنواب المتمردين ومن على شاكلتـهم من المصلحين أن يبلوروا هدفا وطنيا واضحا، ومشروعا سياسيا واجتماعيا قابلا للتحقيق، وكفيلا بإعادة تأسيس الجمهورية على أسس وطنية مؤسساتية. أكيد أن عهد الرئيس الذي يثورون ضده عهد فاسد وبغيض ومناوئ للمصالح العليا للوطن. ولكن الثورة على ذلك العهد وحزبـه لا تشكل في حد ذاتـها برنامجا سياسيا وطنيا.
فكفى أخطاء وارتجالية وانفرادا بالسلطة! نحن بحاجة إلى زعيم قوي صالح يقود مسيرة التأسيس بعد ما تم في العقود الماضية من هدم وتدنيس. ومن المستحيل أن ننكر دور الفرد، خاصة في مجتمعنا البدوي القبلي. ولكن الذين يظنون أن إرادة فرد أو مجموعة ضيقة من الناس ـ مهما كان شأنـها ـ يمكن أن تشكل سببا كافيا لتحقيق الإصلاح والبناء هم مخطئون وواهمون! أما الذين يريدون من وراء "ثورتـهم" خلق معبود بشري يسبحونـه بكرة وعشيا، وينـهبون الدولة بواسطتـه، فإنما يعيدون إنتاج أنماط بالية لم تجلب لبلادنا سوى الويل والدمار!
لقد أفسد الجيش البلاد سنة 78، وحاول إنقاذها سنوات 79، و84، و2005، وكان سببا في ضياع فرصة التغيير سنة 2007 ومجيء سيدي وأعوانـه المفسدين، وهاهو يتصدى لإنقاذنا مرة أخرى! ولكن. ألا يكفي من تدخل الجيش وتحكمه في مصير العباد والبلاد! ومن ذا الذي يضمن لنا أن يظل جيشنا في أيد أمينة ووفية لمصالح الأمة؟ كفى تدخلا للجيش في لعبة السلطة والسياسة. إن مصيرنا اليوم منوط بشروط أهمها: إعادة بناء الدولة الوطنية التي تم هدمها خلال العقود الثلاثة الماضية. وإن أولى الخطوات إلى ذلك هي:
رجوع الجيش إلى ثكناتـه مكرما محميا يعتزل السياسة ويحمي حمى الوطن والجمهورية.
إعلان الحرب على الفساد الذي هو أساس الهدم وعدم الاستقرار.
بناء دولة المؤسسات والقانون التي تعتمد مبدأ فصل السلطات، ويحكمها قانونـها، ويشارك مواطنوها الأحرار في تسييرها بشفافية واحترام وعدل فطري نابع من طبيعتـهم الصحراوية الحرة ومن قيمهم الإنسانية النبيلة التي تغنى بـها شعراؤهم ومفكروهم الملهمون.