كتب الراحل بيير بورديي عن الدور الدعائي لبرنارد هنري لفي خلال العشرية الدموية في الجزائر (حين لجأ العسكريون الجزائريون الى لفي لأجل تبرئتهم في الصحافة الفرنسية من أي دور في المجازر الجماعية ومن أي تواطؤ مع الجماعات المسلحة) : “المثقف السالب قام بمهمته : ….
.
خصوصا حين يتعلق الامر بمن يتمّ وصفهم دون أي تأسيس تاريخي بـ “بمجانين الإسلام” … كأحسن وسيلة لمنح الازدراء العنصري ذريعة أخلاقية ولائكية فوق النقد. “
ـ1ـ
من هم “الفلاسفة الجدد”؟ وما هي دوافعهم؟ يُقدَّم برنارد هنري لفي غالبا في الصحافة الشعبية على أنه كاتب وفيلسوف فرنسي. وهو فعلا فرنسي الجنسية ولكنه جزائري الأصل (يتعمّد أحيانا بعضُ خصومه تذكيرَه السجالي بهذا الأصل ويعتبرون، صوابا أو خطأً، أنّ جزائريتَه مصدرُ عُـقد كثيرة متضخّمة لديه). وُلدَ سنة 1949 في مدينة “بني صاف” من عائلة جزائرية متواضعة انتقلتْ مع “لفي” الأب من الفقر إلى الثراء الفاحش قبل أن تَستقر في باريس سنة 1954. وقد ظهرتْ عبارة “الفلاسفة الجدد” لأول مرة سنة 1976 كعنوان غلافي لعدد دعائي مخصّص للموضوع من مجلة “الأخبار الأدبية”. وتمّ تكريسُ التسمية التسويقية في البرنامج التلفزيوني “أبوستروف” المشهور حينها في فرنسا كبرنامج ثقافي شعبي. موضوع الحلقة : هل الفلاسفة الجدد من اليسار أم من اليمين؟ هذا بالرغم من أن أصحاب “لفي” ـ وهم ما زالوا في بدايات “مسارهم” ـ يصرون حينها على يساريتهم وعلى أن رغبتهم هي تجديد البيت اليساري عبر القطيعة مع كل ولاء للحلف الشرقي وعبر الانتصار لليسار الديمقراطي ضد اليسار الشمولي الستاليني. كان المدعوون باسم الفلاسفة الجدد ليلة تـ”كريسهم” التسويقي خمسة، ولكن وحدهما برنار هنري لفي وأندري جلكسمان من بين زملائهما هما من بقيا إلى الآن في الواجهة.
ـ2ـ
“جلكسمان” من أصل بولندي بدأ حياته السياسية في صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي، ثم في أقصى اليسار الماوي قبل أن يراجع تالياً مواقفه في أواسط السبعينات. السؤال الذي طَرحه برنامج “أبوستروف” هو إذن سؤال أثبتَ وجاهته الدعائية بعْديا. فلم يتوقف لـفي وجلكسمان عن تقديم عناصر الإجابة عمليا من خلال مسارهما وذلك طيلة ما يقارب الآن الأربعين سنة. فقد بقيا في تمدّد متواصل من الانغراس في اليمين الصهيوني إن لم نقل في أقصى اليمين الليكودي. وهما لا يمثلان فقط أحد نماذج التحول من اليسار إلى اليمين كما تكرّس منذ انتهاء الحرب الباردة ولكنّ مسارهما منذ البداية كان من جهة إعلاناً سابقاً لأوانه عن هذ التحول الذي جاءت ثمرتُه ما أَطلق عليه “لندنبرج” العبارة الموحية : “الرجعيين الجدد”، كما كان المسار نفسُه منذ البداية تكثيفاً متواصلاً لمواقفهما المعادية حرفيا للمسلمين كما أفصحا ويفصحان عنها في السنوات الأخيرة.
ـ3ـ
“الفلسفة الجديدة” تبدو إذن آلـة دعائية أولاً. تفضّل كالسفسطائية الاسترسال “البلاغي” أو ما سماه ريمون آرون في مقال شهير بطنطنة (boursouflure) هنري لفي. ولكنها حين تعلن إسلاموفوبيتها و”ليكوديتها” فإنها لم تعد تحتاج إلى كبير تحفظ. لفي” مثلاً يُؤكّد أنه ضد مفهوم صدام الحضارات أو “صدام الغرب والبقية”، فالصدام بتعبيره ليس “مع البقية ولكن داخل البقية، بين المسلمين المعتدلين والمسلمين المتطرفين”. ولكن مَن هم المسلمون المعتدلون؟ هم تسليما نصرين، وأيان هيرشي علي وأمثالهما. بمعنى آخر فهو يعيد إنتاج الفكرة الهنتغتونية بصيغة مخالفة ولكن بإسلاوفوبية أشد كثافة. فالفلسفة الجديدة في نظره دون مواربة “كانت تقاوم الشمولية الحمراء وهي الآن تقاوم الشمولية الخضراء”. مع ذلك لا يعلن “لفي” تماماً ولاءه “البوشي” وتَـبَـنّيه لفلسفة صراع الحضارات، فاستراتيجيتُه الإعلامية أكثر “كلّيانية”. ولعل الفيلسوف جيل دليز كان أول من انتبه إلى هذا البعد عندما تحدّث عن “الصيغ المتعددة لنفس المنتَج أو الكتاب” وذلك في مقابلة متداولة ظهرتْ سنة 1977 بفترة قصيرة بعد صدور باكورة “مؤلفات” برنار هنري لفي : “البربرية بوجه إنساني”. فقد ردّ “دليز″ على سؤالٍ عن رأيه في “الفلاسفة الجدد” بقوله : “أعتقد أن فكرهم عديم القيمة. ولكنهم أدخلوا في فرنسا التسويق الأدبي أو الفلسفي […] ، فكرة التسويق في الكتاب الفلسفي أمر جديد فعلاً. فالفلاسفة الجدد يعيدون إنشاء وظيفة المؤلف الفارغ ويعتمدون مفاهيم ضخمة عديـمة المحتوى […] غارقة في الثنائيات”.
ـ4ـ
منذ السبعينات لم تتوقّف فاعلية “الفلاسفة الجدد” كعنوان لشبكة نفوذ أو “كعلامة تجارية مسجلة” تعمل بتواطؤ شبكاتها الإعلامية تحت غطاء عناوين متجدّدة. ورغم أنّ الأوساط الفكرية تنظر إلى لفي بكثير من الاستهزاء والسخرية إلا إنّ ذلك لم يعن بالنسبة لنفوذه السياسي والدعائي إلا مزيدا من التضخّم المرعب، إلا مزيدا من الإفصاح عن نفسه بانتشاء.
* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل