فِي الواقع لم ينزع موريتاني إلى "التطرف" نتيجة معارف علمية شرعية تلقاها في المحظرة مطلقا، ولم يتعرض أي من الذين سلكوا مسالك التطرف لاغتصاب أو تحرش في محظرة..
.أجزم بهذا، وفي اعتقادي لو كان تعرض أي من أؤلئك الشباب لما تعرض له "سليمان" في "المتطرف" لما ظل الأمر سرا حتى يكشفه ذلك العمل السينمائي..
لم يشكل الاغتصاب يوما ظاهرة في المحاظر الموريتانية، ولا تكشف الوقائع المسجلة قضائيا عن وجودٍ يذكرُ له، وهذا مؤشر أساسي..لا أذكر على مدى سنوات عديدة سوى حالتين فقط في الوسط الحضري، اتهم في إحداهما أجنبي يسكن في ملحق أحد المساجد باعتداء على أطفال يدرسون على إمام المسجد، وفي الأخرى اتهم مساعد إمام مسجد بالاعتداء على صِبْيَةٍ، ولم يكن الأمر يتعلق بمحظرة بمعناها الحقيقي..
توجه بعض الشباب بمحض إرادتهم إلى المحظرة بعد التزامهم دينيا، طلبا للعلم، واتجه أفراد من هؤلاء ـ قلة قد لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة ـ إلى التطرف، لكن ليس بفعل تأثير أشياء درسوها في المحظرة، ولا بسبب جو المحظرة، بل لأسباب أخرى سيتضح بعضها في النقاط التالية، وقد كان مرور أؤلئك بالمحظرة خاطفا وسريعا..ليس كل من زار المحظرة محظري، وليست كل محظرة بالعنوان محظرة في الواقع، والمحاظر المزورة موجودة، وخاصة في داخل المدن الكبيرة..
جاء بعض الأشخاص إلى محاظر البادية ـ وهم قلة أيضا ـ محاولين الإختفاء، بعد أن كانوا سلكوا مسالك التطرف، وشعروا بالمتابعة والملاحقة في المدن، قبل أن ينكشف أمرهم..في سنوات التسعينيات، وبعد سنة 2001 جاء بعض الأجانب من دول مجاورة، ومن دول غيرها، إلى المحاظر الموريتانية لأسباب، منها ملاحقات تعرضوا لها في بلدانهم، وأماكن أخرى، وكان آحاد من هؤلاء يحملون فكر التطرف، وحاول أفراد منهم نشره، من أجل استمالة بعض الشباب الموريتانيين، لكن نجاح هؤلاء في مهمتهم كان ضعيفا ومحدودا جدا، بل إن منهج المحاظر الموريتانية كان لهم بالمرصاد،
وقد طرد شيوخ محاظر موريتانية عديدة بعض أؤلئك، وحاور شيوخ تلك المحاظر الشباب الذين خافوا عليهم من تأثير المطرودين، ونجحوا في تصحيح المفاهيم لدى كثيرين منهم..وقد غادر بعض أؤلئك الأجانب المحاظر الموريتانية بعد فشل محاولاتهم نشر فكر التطرف مكفرين شيوخ تلك المحاظر، ومشنعين عليهم ورافضين منهجهم العلمي..
ويمكن الجزم بأن الموريتانيين الذين تم التأثير عليهم في المحظرة من طرف أشخاص أجانب ظل في حدود ضيقة، وأشرت سابقا إلى أشخاص جاؤوا إلى محاظر بعد التزامهم دينيا طلبا للعلم وسلك بعضهم مسالك التطرف، لكن بتأثير هؤلاء الأشخاص الأجانب، وليس بسبب منهج المحظرة العلمي، ولا بسبب جوها التربوي، ولم يتجاوزوا أصابع اليد الواحدة..اتخذت كثير من المحاظر إجراءات صارمة لمنع أي اختراق لدعاة التطرف لوسطها، مكملة بذلك إجراءات أخرى فعالة اتخذتها السلطات العمومية..
وعموما لم يصل وجود الأجانب في المحاظر مستوى الظاهرة، ولم تكن زيارات آحاد المتطرفين منهم بشكل خاطف لتسلب المحظرة منهجا وسطا ترسخ على مدى قرون من الزمن..
كان لدراسة الأجانب في المحاظر أوجه إيجابية كثيرة، فقد خرجت المحاظر علماء ودعاة وأئمة من جنسيات مختلفة هم اليوم سفراء فوق العادة لموريتانيا في جميع أنحاء العالم، يلظون بجميل ذكرها وينشرون طيب عطائها، ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى عشرات من الإخوة الأفارقة، وإلى أوربيين من أمثال الأستاذ عبد الله سراج، خريج محظرة أهل دَادَّاهْ شمال بتلميت، وأمريكيين من أمثال العالم الجليل حمزة يوسف خريج محظرة أهل فَحْفُ العريقة في لعصابة..
يمكن الجزم كذلك بأن العامل الرئيسي الذي أدى ببعض الشباب الموريتاني إلى الالتحاق بتنظيمات مسلحة متطرفة كان غزو الولايات المتحدة الأمريكية لبلدان إسلامية، وما نشأ عنه من مذابح وتعذيب، وتغطية وسائل الإعلام الحية والمكثفة لذلك، مما دفع بشكل مباشر عشرات الشباب إلى البحث عن تنظيمات توفر التدريب، ويمكن من خلالها الالتحاق بساحات القتال ضد القوات الأمريكية، وكان جديرا بهذا العامل أن يلفت انتباه هواة الأعمال السينمائية..إلى جانب هذا العامل الرئيسي يمكن أخذ عامِلَيْن آخرين في الحسبان، وإن بمستوى أقل، أحدهما التضييق على الحريات، وعلى النشاط الدعوي في عهد سياسي سابق، وبالتحديد سنتي 2003 ـ 2005، والثاني منهما هو سعي بعض التنظيمات المسلحة المتطرفة الأجنبية إلى التوسع إقليميا..ل
م أتعرض هنا لمختلف عوامل التطرف وجذوره، ولم أحرر مفهومه، مع أني أعتبر أن أي معالجة لإشكالية التطرف لا تأخذ في الحسبان من أسبابه المظالم الواقعة على المسلمين من خارجهم منذ استعمار بلاد الإسلام، من طرف القوى الكونية الكبرى تعتبر معالجة قاصرة..
لقد تم اكتتاب الغالبية الساحقة من الذين التحقوا بجماعات مسلحة متطرفة بفعل العوامل المتقدمة، في الوسط الحضري (نواكشوط ـ نواذيبو)، وبعض كبريات المدن، ولعبت شبكات الإنترنت والتسجيلات الصوتية والمطويات الدور الأكبر في ذلك، ووقع خارج ساحات المحاظر الموريتانية..
معلوم أن المناهج العلمية للمحاظر الموريتانية مُدَرَّسَةٌ ومَدْرُوسة منذ قرون، وقد ألم بها جميع الموريتانيين وإن بمستويات مختلفة، ولم تؤد يوما بذاتها إلى تطرف موريتاني، ولا من جاء إليها من الخارج..لكن خريجي المحاظر لعبوا دوما أدوارا مهمة في حماية هوية البلاد الإسلامية، فكانوا سدا منيعا في وجه محاولات تغريب أو تشريق البلاد، ويغيظ هذا جهات وأطرافا، وقد يكون في مفهومها "تطرفا"..في تصدي موريتانيا للتطرف، ومخرجاته، لعب العلماء خريجو، وشيوخ المحاظر دورا كبيرا من خلال الندوات العلمية والدروس والمحاضرات والحوار في تصحيح المفاهيم، وتوجيه المستهدفين، وسجلوا نجاحات مشهودة في ذلك..
لا يمكنني بالتأكيد نقد أي عمل سينمائي لأني ببساطة أجهل هذا الفن تماما، بل وأراه من الفنون الهابطة، لكني أعرف أن أي عمل فني لا ينبع من واقع معين في المجتمع الذي أنتج فيه يكون دَعِيًا ومبتورا، كما أعرف أن الجمهور الذي يشاهد مثل هذه الأعمال، وتساهم في تشكيل معارفه وتصوراته بعيد ـ في أكثره ـ من مستوى يسمح له بفهم "الرمزية"، أو على الأصح تأويلات "أحلام اليقظة" التي يلوذ بها أصحاب تلك الأعمال لتبرير الأشياء المنتقدة فيها، فلا يفهمونها إلا على ظاهرها، ويتصورونها أشياء واقعية..
يتفق خبراء مكافحة الإرهاب في العالم، وكذلك أجهزة استخبارات الدول الكبرى اليوم، على أن وسيلة الترويج الأولى في العالم بأسره لفكر التطرف، وجذب الأشخاص إليه، هي شبكة الانترنت، فمن خلالها يتم اكتتاب آلاف الأشخاص في أوربا وأمريكا، وفي جميع أنحاء العالم، لصالح تنظيمات مسلحة، فهل تعرضت الانترنت بهذا للإغتصاب؟!..أليس من الأولى تسليط الضوء على هذه الوسيلة الخطيرة ـ التي لا يسد دونها باب ـ في الأعمال الفنية، بدل ركوب المحاظر البريئة؟؟!!..