كان الطقس يبشر بالاعتدال في أول أيام شهر رمضان، لم يكن هناك ما يقلق وكان كل شيئ جميل وهادئ حينما كنت أشق طريقي في حي باجول في اتجاه متاجر شابيل للتزود بما تيسر..
.من ماكس دورموا إلى فيليب دو جيرار إلى مدخل شابيل في قلب الحي الصاخب.. شوارع وساحات ومقاهي تألفني محتضنة مقري القديم قبالة حديقة شابيل بجداولها الصغيرة الخضراء، وهاهو المكان يتحول بحكمة حكيم في سنوات قليلة خلت إلى ميدان جذب للمهاجرين والمهاجرين القدامى.
كان ثمة ما يثير الانتباه والعطف من رؤية أولئك المساكين البؤساء وهم يستريحون فوق الأرصفة وينامون على حافة الطرقات في حي باجول بالدائرة الثامنة عشر الباريسية، هؤلاء المغامرون الحالمون الذين ركبوا اليم فنجا من نجا وقضى من قضى في البحر.
مخيم يخلف الآخر ولازال مئات اللاجئين الآخرين من خارج حي باجول ينتظرون.. مع ذلك لم ينعدم التضامن تماما مع هؤلاء فقد تقاطر بعض ذوى القلوب الرحيمة من حي باجول ولاغوت دور وبعض الجمعيات الصغيرة حاملين ما تيسر من أغذية وأدوية وملابس..
ونجح بعض هؤلاء في اقتناء أغطية وأفرشة أرضية من الصليب الأحمر إلا أن هذا لا يسد الحاجة ودون المطلوب، وتستمر المعاناة. آدم، هذا الشاب العشريني من السودان والقادم إلى باريس منذ مدة وجيزة قضى ليلته في العراء مع عشرات من اللاجئين الآخرين بغابة دورموا بعد أن تمت مداهمتهم وتفكيك مخيمهم الذي نصبوه تحت جسر لاشابيل. كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل مساء الأربعاء وكنت أحاول أن أقف متماسكا إلا أن الشرطة اقتحمت المكان بقوة وفرقتنا كالقطيع ـ كما يروى آدم ـ إدريس،
سوداني آخر عمره ستة وثلاثون سنة أخذ منه البرد مأخذه ليلة البارحة وهو يرتدى بنطلونه الرمادي وقميصه الأزرق ولم يغيرهما منذ رحلته الطويلة من دارفور إلى باريس. أما شلب فهو أرتري دخل عقده الرابع هو الآخر، يعاني من السكري ويلاقى ما يلاقيه من صعوبات في الحصول على دواء ويقف شلب رغم ذلك مبتسما ويقول: "إن الوضع سيئ للغاية إلا أننى أحتفظ بالأمل في غد أفضل".
جوهاناس فرد آخر من أفراد مجموعة باجول من أصول أرترية ينزوى نوعا ما عن باقى أفراد الفرقة وكأنه مسكون بسر ولكنك تكتشف عند الحديث معه أن الذكريات تلاحقه فجوهاناس فنان وعازف على آلة البيانو وقد تشط به الموهبة أحيانا فيعزف على آلة الأورغ (الكمان) .. يا سلام .. هذه هي شخصية جوهاناس وهذا ما يفسر السماعات التي لا تفارق أذنيه والتي يستمع من خلالها في صمت للقطع التي ألفها ولحنها لفرقته الموسيقية الأرترية أثناء وبعد الحرب الأرترية الأثيوبية. لم يكن ذلك فضولا ولكن لحظات تأمل مع بشر هجروا خبزهم وغادروا بلدانهم في رحلة بحث عن نكهة المجهول تتوالى عليهم الأيام وهم ينتظرون مكرمة يتفضل بها الجيران أو دعم تقدمه الجمعيات الخيرية في انتظار لا ينتهي... نتمنى أن ينتهى بخير.
إيدوم عبد الجليل باحث موريتاني مقيم في باريس