أسدل الستار على الانتخابات الرئاسية الموريتانية التي أرادها الرئيس عزيز مخرجا من كل أزماته وتجديدا للبيعة له، ولو كان ذلك على حساب مصداقية العملية السياسية برمتها، وأرادتها المعارضة محطة مهمّة ـ بل الأهم ـ في الصراع مع النظام، ولو كان ذلك على حساب أدائها الميداني في الممارسة السياسية في شعب يكاد يكون كل أدائه السياسي موسميا بما فيه المعارضة نفسها.
.الآن يقتضي الأمر إعادة النظر في بعض ما حصل، ومحاولة استقراء الآفاق المقبلة بناء على الواقع الجديد وعلى ما سيتخذه كل من الطرفين من خطوات في المستقبل. وفي هذه السياق لا بأس بالتذكير ببعض الملاحظات:
ـ وصل الجنرال عزيز بانقلاب فجّ إلى السلطة على أنقاض أول نظام مدني منتخب باعتراف الجميع، وبعد عام من أزمة خانقة عطلت الحياة السياسية الطبيعية في البلد، وكرست نفوذ الدولة وإمكاناتها من أجل تشريع انقلاب ضابط مقال، قبلت المعارضة مكرهة بالضغط الخارجي، وبالانزياح الشعبي الداخلي المؤيد للانقلاب، كأي انقلاب حصل في السابق أو سيحصل في اللاحق، وهذا مصدر قلق وليس مصدر فخر أو شرعية طبعا، فتأييد القبائل ورجال الأعمال والموظفين المحكومين بأرزاقهم، وجزء كبير من الشعب الذي لا يهمّه شرعية الحاكم بقدر ما ينصاع لمراكز النفوذ هذه، كلها أمور تجعل التغيير غير الدستوري أمر أسهل مما يعتقد عزيز وأنصاره الذين ستؤيد غالبيتهم أي انقلاب قادم، هذا يدركه عزيز أكثر من غيره!
ـ في المقابل أصبح عزيز بعد انتخابات 2009 رئيسا منتخبا، ولم تطعن فيه أي جهة سياسية، رغم الفرقعات الإعلامية من "الباء" الطائرة وغيرها. فتتالت الاعترافات الصريحة والضمنية به كرئيس منتخب من طرف أحزاب المعارضة وكتلها وشخصياتها، لكن عزيز فشلَ ـ عكس تعهده ـ أن يكون رئيسا للجميع، وينسى مرحلة الانقسام الحادّ بعد انقلابه، فكما تناست المعارضة انقلابه رغم فداحته وجرمه، واعترفت بشرعيته كان من الوارد أن يقوم هو ـ وهو رئيس الجميع ـ بعمل يعكس مكانته الجديدة، لكنه عجز وبقي رهين صراعات سابقة، بل وحتى شخصية، حيث جنحَ في كثير من ردّات فعله ـ وهو صاحب ردّات الفعل التي ترجمت في انقلاب ـ إلى تصفية حسابات مع شخصيات وجهات سياسية بسبب واحد وهو رفضها لانقلابه الفج والخاطئ.
ـ حاولت المعارضة تصحيح المسار الديموقراطي الذي أفسده عزيز بانقلابه، وحاولت التقرب من النظام ـ طبعا كمعارضة ـ وهذا ما لم يفهمه النظام وأعوانه، أن ثمة فرق بين السعي إلى تكريس الانسجام الوطني مع التباين في المواقف السياسية، وبين تأييد نظام معين، كما أن الاعتراف بانتخاب رئيس لا يعني البيعة بتأييده، فمعارضة النظام لا تعني بأي حال من الأحوال معارضة الوطن، ومن يختزل الوطن في الأنظمة ـ خاصة في شخص الحاكم ـ يسيء إلى الوطن، ويفسد الحاكم.
التصعيد من جديد
بعد تمادي عزيز في تصفية الحسابات الضيقة، وفشله في الشعور بثقة الشرعية التي حصدها بعد انتخابات 2009 ومعاملة جميع المواطنين من نفس الزاوية بغض النظر عن مواقفهم منه، وتردي خدمات نظامه، وتدهور الأوضاع المعيشية والأمنية في ظل حكمه، وفساد التعليم ـ عزيز نفسه قال إن التعليم فاسد تماما ـ وسوء قطاع الصحة وارتفاع الأسعار، وازدياد الشرخ الاجتماعي وهيمنة المطالبات الفئوية على غيرها نتيجة لغياب عدالة حقيقية وقضاء ينصف الجميع، واستمرار النظام في إقصاء المعارضين من الوظائف والتعيينات، وغيرها من مظاهر الأزمات والتأزيم. بعد كل ذلك لم تجد المعارضة بدّا من التصعيد رغم أنها منهكة بسبب سنة من رفض الانقلاب ومنازلة الانقلابيين، وبعد جهود الحملات الرئاسية المستنزفة لها، وهي التي لا تتمتع بولاء القبائل ولا بميزانية الدولة ولا هيبتها ولا برؤوس الأموال ولا تمنح الصفقات المشبوهة الخ.
فبدأت تلملم شتاتها وتستجمع قواها من جديد، وبدأت الأنشطة والوقفات الاحتجاجية ومحاولات التصعيد والضغط، ثم جاءت موجة الربيع العربي، فوقعت المعارضة في خطأ إسقاط واقع أنظمة قديمة جدا وقمعية جدا ـ بل دموية ـ في مجتمعات متأزمة جدا، على نظام فتيّ منتخب باعترافها جميعا تصريحا أو تلميحا (قبل أن يظن البعض أن موقفي هذا جديد يمكن الرجوع إلى مقال: اعترافات معارض مهزوم بتاريخ 19/07/2007)، رغم أخطائه الكثيرة وخلفيته الانقلابية، وفشلت المعارضة في ذلك الإسقاط لأسباب منها اختلاف الصور، ومنها سوء تقدير الواقع، ومنها سوء إدارة الأزمة خاصة أيام "رصاصة الصديقة أو سكينها" الخ. وسرعان ما اعترفت المعارضة بخطأ ذلك التقدير وذلك الإسقاط، كما اعترف بعضها (التكتل وحاتم) قبل ذلك بخطأ تأييد انقلاب الجنرال عزيز على الرئيس المنتخب سيدي ولد الشيخ عبد الله، فالمعارضة عكس النظام تعترف بأخطائها الكبيرة في الغالب.
المنعرج الأخير
استمر الوضع المتأزم بين الفريقين، وكان النظام متمرسا بالعقاب الجماعي ضد كوادر المعارضة، من الإقصاء إلى الملاحقات، وضد كياناتها وأحزابها، باستنزاف جمهورها رغبة ورهبة، وهو النظام الذي يدعي الشعبية ويدعي الديموقراطية، ومع ذلك لم يكرس جهده لشيء كما كرسه لتشويه المعارضة، ومحاولة سحب البساط من تحتها ولو كان ذلك باستخدام المال العام، وهيبة وسلطة الدولة، ضد جزء من الشعب اختار خيارات سياسية دستورية وسلمية.
في منعرجه الأخير، باغت النظام المعارضة ـ التي كانت تطالب بحوار وآليات تضمن سلامة أي انتخابات ـ بتنظيم انتخابات بلدية وتشريعية مما جعلها في موضع صعب إما أن تشارك على عجل وارتجالية في ظروف لا توجد بها مقومات انتخابات سليمة، وفي هذه الحالة ستكون النتيجة مدمرة، أو تقاطع وربما سيكون لذلك ثمن خاصة إن لم تبذل جهدا في المقاطعة أو لم تسايرها الجماهير في ذلك، وهو ما حصل بعضه.
لكن الأخطر من ذلك أن تلك الانتخابات كانت محطة رابعة ـ بعد محطّة لحاق مسعود بسيدي في الشوط الثاني، و"تقدم" و"تواصل" بحكومة ولد الوقف، و"التكتل" و"حاتم" بتأييد انقلاب عزيز ـ من الشرخ البيني بين أطياف المعارضة، حيث وقع "تواصل" في خطأ المشاركة منفردا ومشرعا ـ معنويا ـ للنظام ما أقدم عليه. وطبعا كان لذلك ثمنه في ضعف المعارضة وانعكاس صورتها في ذهن الجمهور، بل وفي خلق شرخ بين أهم مكوناتها الشبابية ونشطائها على الأقل.
ثم جاءت الانتخابات الرئاسية، رغم مطالبة المعارضة بضمانات لم يقدم منها النظام أي شيء مقنع، ويكفي الطعن في حجّة النظام أنه قدم تنازلات أو كان مستعدا للحوار، ما حصل مع أحزاب المعاهدة التي سايرت في كل حواراته ووقعت معه اتفاقات لم يفِ بأغلبها مما جعل هذه المعاهدة ـ باستثناء حزب الوئام (بيجل) ـ تتراجع إلى مقاطعة أهم حدث عند النظام وهو الرئاسيات. يمكن مراجعة تصريحات رئيس البرلمان السابق مسعود بشأن خروقات النظام للاتفاقيات وما شاب الانتخابات التشريعية والبلدية من أخطاء جعلت مقاطعة الانتخابات الرئاسية خيارا أفضل.
آفاق ما بعد الرئاسيات
تمت الانتخابات الرئاسية كما قرر عزيز ـ لا يوجد معه في نظامه فاعل آخر الآن حزبا ولا شخصا ـ بمشاركة منافسين نصفهم مؤيد له بالتصريح أصلا، ونصفهم متهم بالتمالئ معه ومحاباته، وكان دعم عزيز المالي لهم بمئات الملايين محل طعن في منافستهم له، بالإضافة إلى تجاهله لهم خلال الحملات الرئاسية وتركيزه على "غول" المعارضة، وبهجوم تجاوز المعقول، إلى التجريم (عصابة المجرمين)، والاتهام بإفساد موريتانيا خلال العقود الماضية، كما لو كان عزيز معارضا منذ نصف قرن، وكان أحمد ولد داداه ومحمد ولد مولود وجميل منصور وصالح ولد حنن ومحمد ولد بربص والساموري الخ رؤساء ووزراء منذ الاستقلال إلى الآن، أو حرس دكتاتوريات أو حكّاما وصلوا إلى القصر بانقلابات!
ورغم انتهاء هذه الانتخابات التي شهدت عمليات تزوير هي الأسوأ من نوعها منذ سقوط ولد الطايع 2005 إلى الآن، فإنها لم يتم أي طعن دستوري فيها لا من طرف المنافسين "المصطنعين" للجنرال، ولا من طرف المقاطعين، حتى كتابة هذه الحروف، وهو ما يعني ضمنيا الاعتراف على الأقل في جانبه الدستوري والقانوني، فلقد تمت الانتخابات في فترتها الزمنية العادية، ومقاطعتها الواسعة تنزع شرعيتها السياسية والشعبية ومصداقيتها إلى حد كبير، لكنها لا تنزع شرعيتها القانونية والدستورية إلا بإجراءات معينة، طبعا لا يمكن توقعها من "وزير الباكلوريا" ورئيس وزراء ولد الطايع الأسبق، الذي يتربع الآن على المجلس الدستوري بفضل ثقة "رئيس الفقراء" و"محارب الفساد"!
التقدم إلى منطقة وسط
هذه الصيغة المختصرة للواقع توحي أنه يجب على الجميع أخذ الصورة مكتملة من أجل التقدم إلى منطقة وسط، فأجواء الشحن "الحملاتي" وأزمات الانتخابات تخف مع انتهاء المواسم، لكن الأزمة الوطنية تبقى بحالها وفي كل تجلياتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، بل أضيف عليها تردي في الأزمة السياسية. وهو ما يستدعي اتخاذ خطوات جريئة وسريعة، وربما "مؤلمة" من طرف الجميع.
وفي هذا الصدد يجب على عزيز أن يدرك أنه أصبح رئيسا للموريتانيين بفترة ولاية ثانية وأخيرة، حسب ما أعلنت حملته وصدّقت موالاته، وبارك أو قبل منافسوه. ومن عادة "المنتصر" أن يكون أرحب صدرا وأكثر حكمة من "المنهزم" خاصة إن كانت الولاية الأخيرة، حيث يفترض أن تكون فترة مصالحة ومسامحة وبناء وتصحيح أخطاء الفترات السابقة (فترة الانقلاب والولاية الأولى)، طبعا يحتاج تصحيح الأخطاء الاعتراف بها أولا، وهذه جزء من مشكل النظام، بل من مشكل عزيز شخصيا، الذي يرى في انتقاد أخطائه جرما يستحق العقاب، وفي معارضته جريمة تستحق الإقصاء والإخراج من دائرة المواطنة!
إن إدراك عزيز أنه رئيس للجميع، وثقته في نجاحه، واقتناعه أن هذه ولايته الأخيرة كلها أمور تساعده ـ إن حصلت ـ على الليونة أكثر، والعمل انطلاقا من ذلك، وهذا يقتضي المسارعة إلى المطالبة الصريحة والجدية بحوار مع كل الألوان السياسية المعارضة له، وسيكون ذلك مصدر شرعية أخرى، خاصة إن صاحبته إجراءات ملموسة تؤكد السعي إلى تحسين الواقع المعاش للشعب، والعمل على وقف الفساد المستمر في الإدارة ونهب المال العام، والزبونية في التعيينات والترقيات، وجعل الولاء بل والتملق الفج هو المصدر الوحيد للاستفادة من الدولة بغض النظر عن الكفاءة أو عدمها، وفتح وسائل الإعلام الرسمية للجميع ما دامت ممولة من المال العام وليس من مال حزب حاكم، وأهم من كل ذلك إصلاح القضاء ليصبح ملاذا للجميع في حالة أي تجاوز أو ظلم أو تطفيف، كما أن الاهتمام بالشرائح المقصية والمهمشة على أساس حاجتها وواقعها وليس على أساس من يوالون منها سيبقى ركيزة تساعد في الحل المنشود.
عندها فقط يمكن مطالبة المعارضة بالتعاون مع النظام من أجل تخفيف حدة الانقسام السياسي والمجتمعي والعمل على إعادة جزء من مصداقية العملية السياسية وتحسين الأداء الديمقراطي، فالمعارضة لست جرما بل ظاهرة طبيعية وجزء من المشهد الوطني السليم، وهي صمّام أمان عدم انحراف السلطة بشكل أكبر، ويجب تشجيعها على ذلك بدل معاقبتها من طرف الدولة، إن الدولة ومرافقها ملك للجميع.
إن لم يكن أي من هذا، فلنتوقع مزيدا من التصعيد والتأزم، والتشرذم الاجتماعي، وفساد النظام وإفساده، فهنالك دائما أناس غير مستعدين لمسايرة الظلم ولو كثر الساكتون أو الموالون، ومهما كلّف الثمن، وطبعا هنالك أناس موالون ويدفعون للتصعيد رغم أنهم مستعدون للتخلي عن عزيز غدا كما تخلوا عن سيدي وعن معاوية من قبله في لمح البصر، وهنالك طبقات وشرائح واجتماعية لم تعد ساكتة على التفاوت القائم والواضح جدّا. والخاتمة هي كما تعرفون جميعا، انقلاب عسكري آخر يرجعنا إلى الصفر من جديد ـ إن لم يحصل انفجار اجتماعي أسوأ ـ لنبدأ تلك الرحلة السيزيفية المشؤومة!