القلم: لقد طالبتم، في مقال نشر مؤخرا، بتنازلات لصالح الحوار؛ وكان طلبكم موجها لكل الأطراف بما فيها المعارضة. ويبدو أن مقالكم أثار امتعاضا داخل القطب السياسي الذي اجتمع، في ما يبدو، ووجه إليكم بعض الملاحظات.. ما صحة ذلك؟
.
أحمد سالم: علمت بما ذكرتم من خلال الصحافة، لكن يمكنني أن أؤكد لكم أن شيئا من ذلك لم يقع. فالقطب السياسي لم يجتمع منذ أكثر من أسبوع. أضف إلى ذلك أنه إذا كانت ثمة ملاحظات لدى القطب السياسي، أو أي قطب آخر ضمن مكونات المنتدى، وهو أمر عاد، فإن لدينا ما يكفي من القنوات لكي لا نتبادل ملاحظاتنا عبر وسائط إعلامية. وعلى كل، ففي مجال الحوار، ليس على أي طرف أن يكون في وضع المتراجع أو أن يكون في وضع المستحوذ.
هذا النمط من المفاوضات كثيرا ما يلجأ إليه أولئك الذين يعتقدون أنه ليس عليهم تقديم مساهمة قادرة على المنافسة أو خادمة للتعاون، وإنما يريدون الحصول على كل شيء ومن طرف واحد.
إنها أسوأ واحدة من ثلاث طرق معروفة للمفاوضات، هي: -طريقة الاستحواذ، وتتمثل في الاعتقاد أن التنازلات التي تنبني عليها المفاوضات لا تعني إلا طرفا واحدا.
وتوصف هذه الطريقة بأنها غير مدروسة ولا ناضجة لأنها تقوم على مبدأ الرابح المستحوذ مقابل الخاسر تماما، والحقيقة أنها كثيرا ما تقود إلى خسارة الطرفين معًا.
هذه المقاربة تستند إلى المغالاة أو التقدير الزائد للذات والتقليل من شأن الآخر، وهي تقود في إطار المفاوضات إلى فجوة سخيفة في تأويل مسلكيات الحوار.
لأن نفس الموقف سيُـنظر إليه بطريقة متعارضة جذريا إذا ما اتخذه أحد الأطراف. هذا النوع من المفاوضات يشبه ردود فعل أصحاب السيارات الذين لا يتردد أحدهم في شتم السائق القريب منه، ولو تمتمة، مبرّئا في ذات الوقت نفسه.
إنه ما يوصف بأنه تركيبة من الحجج الهادفة إلى اتهام الآخر والحجج الهادفة لإيجاد أعذار للنفس من قبيل: إذا لم أتراجع أنا فمعناه أنني صارم، وإذا لم يتراج هو فمعناه أنه متعنت، وهكذا: أنا صارم، هو متعنت.. أنا دقيق، هو مشاكس.. أنا أمتلك الحدس وهو يفقد الإدراك.. أنا عادل، هو انتقامي.. أنا حصيف، هو إجرائي.. أنا فطن، هو متلاعب.. أنا تصالحي، هو منافق.. أنا عملي، هو ليس موضع ثقة.. أنا أبذل كل الجهود، هو لا يقبل بأي منها.. أنا نواياي طيبة، هو نواياه لا يمكن الكشف عنها.. إذا لم يقبل هو اقتراحاتي، ففقط لأنه لم يفهمها. وإذا لم أقبل أنا اقتراحاته هو، ففقط لأنها سيئة.. إذا غضبتُ فلأنه هو تجاوز كل الحدود.. إذا غضب هو فلأنه فقد الوسائل.. وباختصار فهذه هي أسوأ طريقة لإجراء أية مفاوضات. فأصحاب هذه النظرة دائما ما ينتظرون كل شيء من الآخر وليسوا مستعدين لللقيام بأية تنازلات له.
إنه فهـْـم مشوش للواقع الذي يرى هؤلاء، بصفة عفوية، أنه يصب في صالحهم، وأنه غير مؤات للطرف الآخر. إنه يقود إلى فشل حتمي للمفاوضات حتى في مراحلها التمهيدية.
بيد أن كل مفاوضات يراد لها النجاح يجب أن تختار، حسب السياق، واحدة من المقاربتين التفاعليتين التاليتين: -طريقة "خذ وأعْـطِ" المبنية على تنازلات متبادلة، تتمثل في تخلي أحد الأطراف إراديا عن مسألة ما لصالح الطرف الآخر.
إنها مقاربة يغلب عليها الطابع التنافسي، والتفاوض عبر الموقف، وتتمثل في تقديم موقف والدفاع عنه بغية الاستفادة من تنازلات الطرف الآخر.
هذا النمط من المفاوضات ينطوي على التبادل بطريقة تجعلني أتخلى للطرف الآخر ليجد حلولا لا تهمني كثيرا وتهمه هو، من أجل أن يتخلى هو عن أمور تشكل أولوية بالنسبة لي ولا تهمه هو كثيرا. –
طريقة الربح المتعادل، وهي أسلوب تنافسي، تطبعه المفاوضات العقلانية المبنية على أخذ مصالح كل الأطراف بعين الاعتبار. وهي مقاربة تمكــّـن من الاقتراب من وضعية يتفاءل فيها كل طرف بأكبر قدر من الرضا عن النتائج.
وتتجسد، على نحو حاسم، في استفادة أحد الأطراف دون جعل الطرف الآخر في وضعية صعبة، ثم إيجاد حل لا يجعلني أخسر كثيرا ويجعل الطرف الآخر يستفيد كثيرا، مع حل آخر لا يجعل الطرف الآخر يخسر كثيرا ويجعلني أنا أستفيد كثيرا.
هذه التقاطعات والتبادلات تؤسس للحوار كآلية منتجة للقيمة وليست فقط آلية لتقاسم القيمة.
القلم: يقال بأن المنتدى يضم توجهين: توجه الذين يدفعون إلى الحوار مع النظام، وتوجه الذين يرفضونه.. ما الحقيقة؟
أحمد سالم: في اعتقادي أن البعض يحاول قلب الأدوار بغية عرقلة الحوار. هناك محاولة لإظهار الحوار وكأنه متنفس النظام، والعوّامة التي تــَــقيه الغرق، والحل لمشاكله، لدرجة أن أي عمل لصالح الحوار أصبح قرينا بنوع من المحاباة الساعية لدخول لعبة النظام.
هذه المناورة تحاول حصر المنتدى في دور خامل، وتعقيده من كل مبادرة في اتجاه الحوار، ومنعه، بأي ثمن، من التقدم بشأنه.
بينما يجدر التذكير بأن الحوار مطلب للمتتدى. فالمنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة، خلال جلساته الأولى في شهر مارس 2014، اعتمد رؤية استراتيجية تجعل من الحوار السياسي "الطريق الوحيد الممكن لتسوية الأزمة السياسية التي تشهدها البلاد".
هذا منصوص في وثيقة الحوار مع النظام التي قدمها المنتدى. لم تنص هذه الوثيقة على أن الحوار هو أفضل طريق ولا أمثل طريق، لكنها نصت على أنه "الطريق الوحيد الممكن".
يجب إذن إعادة الحوار إلى جوهره الكامن في أنه مطلب للمنتدى، بل مطلب ملح. وبميزان قِـوَى يميل لصالح المنتدى، فإنه اليوم يعتبر فاعلا لا غنى عنه يمكنه أن يحصل، فوق طاولة المفاوضات، على تنازلات، ويمكنه فرض إشراكه أكثر في المسلسل الانتقالي الذي يجب أن يقود إلى التناوب السلمي ويضمن التغيير الذي يطمح له الشعب الموريتاني، هذه هي المقاربة السليمة للحوار
.القلم: أنتم إذن لستم من الذين يدفعون باتجاه النظام ويحاولون التقرب منه؟
أحمد سالم: أنا جزء من الطيف المعارض منذ زمن بعيد. ولا أحد يمكنه أن يقدم لي دروسا في المعارضة. ففي يوم 6 أغشت 2008 وقعت، في الوهلة الأولى، باسم نقابة المحامين، بيانا منددا بالانقلاب العسكري. وأمضيت 12 سنة من الكفاح من أجل العدالة وحقوق الانسان داخل مكتب سلك المحامين: 6 سنوات كعضو و6 سنوات كنقيب.
وقبل أشهر رميت ببذلة المحاماة أمام يديْ رئيس الجمهورية تعبيرا عن احتجاجي وبغية شجب الظلم المعيش. أنا إذن أتبوأ بارتياح وديمومة مكانتي كمعارض. فلتطمئنوا. من جانب آخر، فقد تذوقت طعم المهن الليبرالية الناجحة، فأنا عضو في شبكة خبراء قانونيين دوليين، وبالتالي لست ابتغي ولا حاجة لي في أية وظيفة عمومية.
وأؤكد لكم أنكم لن تجدونني مستقبلا في حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، ليس لأن الانضمام له معرّة، لكنني مرتاح تماما في زاويتي ومصمم على البقاء فيها.
مع ذلك فإن معارضتي مرفوقة بجملة من الثوابت من ضمنها: أولا تشبثي الكبير باستقلاليتي وحريتي ومسايرتي لمبادئي. هذه القيـّـم ليست مرهونة بأي وظيفة، حتى وظيفة رئيس المنتدى المشرفة. ثانيا، معارضتي ليست ضد شخص بذاته أو لصالح شخص بذاته. إنها معارضة مسؤولة وديمقراطية، لذلك لم أرفع أبدا شعار "إرحل".
فأنا معارض لأن لدي طموح لبلدي، ومعارض لأنني أصبو إلى المزيد من العدالة والمساواة والازدهار والاستقرار والديمقراطية. وأنا جد متعلق بالتغيير، غير أنني أتمنى لبلدي أن يحدث فيه هذا التغيير بصفة هادئة ومتشاور عليها، وجهودي كلها تصب في هذا الاتجاه، ولست من الذين يعتقدون أن اعتماد هذا الخيار يشكل محاباة من أي نوع كانت
. القلم: بعد ترشحكم للرئاسيات الأخيرة، وانسحابكم في آخر لحظة، هل ما زلتم تطمحون لأصوات الموريتانيين؟
أحمد سالم: أنا ملتزم ضمن مشروع سياسي كبير يتمثل في المساهمة، داخل المنتدى، في إحداث التغيير في موريتانيا، وطي صفحة الأنظمة المستبدة، وضمان التناوب الديمقراطي.
إنه مشروع طموح من شأنه إخفاء كل الطموحات الشخصية. ويجب أن يكون ديباجة لمقاربة سياسية جديدة، أقل شخصنة، تجعل المواطن في صلب فعلها.
إن الحصيلة التي تلاحظ اليوم هي القطيعة بين المواطن وحــُـكامه. علما بأن السياسات الاقتصادية والاجتماعية لا تأخذ في الحسبان انشغالات ومصالح المواطن. فالبطالة، وضعف الولوج إلى الخدمات العامة، وعدم المساواة في ذلك، وظروف الحياة، أمثلة ناصعة على هذا الطلاق. أما العقد الاجتماعي فقد انفرط. لكن يجب أن نتحاشى، جاهدين، أن يمس هذا الطلاق وتمس هذه القطيعة كافة الطبقة السياسية.
يجب أن نتحاشى القطيعة وأن نتحاشى أن يعم عدم الثقة بين المواطن والطبقة السياسية، وعموما بين المواطن والنخبة، ونتحاشى اتساع الفجوة لأن ذلك سيقود جزءا من المواطنين إلى العيش لاجئين داخل ديمقراطيتهم، ويقود جزءا آخر إلى البحث عن العلاجات في الحلول التبسيطية التي يتحفهم بها التطرف.
القلم: بهذا تدعون إلى اعتماد طريقة جديدة لممارسة السياسة؟
أحمد سالم: في الحقيقة ليست طريقة جديدة لممارسة السياسة، لكن يجب أن نركن إلى الحقيقة البديهية المتمثلة في أن السياق الجديد يفرض مقاربة جديدة يتوجب عليها أن تتمحور حول المُـسَـلّمتين التاليتين: -القرب أكثر من المواطن لكي تصبح حياته اليومية في مركز العمل السياسي خاصة الشباب الذين يشعرون بأن أحدا لا يستمع إليهم وأن أحدا لا يفهمهم. -أخذ الخطر الذي يداهمنا بعين الاعتبار.
إنه الخطر المترتب على الأزمة التي تغوص فيها موريتانيا .
القلم: تعنون الأزمة الاقتصادية والاجتماعية على حد سواء؟
أحمد سالم: هذه الأزمة، وإن كانت دولية بالأساس، ليست اقتصادية فحسب، لكنها تعني كل النمط الاجتماعي في ظرف هش من الانتقال بين مجتمع قديم في طريقه إلى الاختلال ومجتمع ما يزال يتشكل.
بين تحلل البنى القديمة، والتآكل العميق للمضامين التقليدية، وتحلل المرجعيات الموروثة من الماضي، من جهة، والتوسع الفوضوي لنمط الحياة الحضري والفردانية وتفاقم الإحساس بالقلق والارتباك، من جهة أخرى.
القلم: من أين نبدأ لنواجه هذا الوضع؟
أحمد سالم: نبدأ من الحوار. وهذا بالطبع هو السبب الذي جعل الحوار خيارا للمنتدى بكل مكوناته (المجتمع المدني، النقابات، الشخصيات المستقلة، الأحزاب السياسية).
فالمنتدى يعتبر أن البناء المشترك يشكل فرصة لرفع التحديات القائمة أمام الديمقراطية. والمنتدى يعتبر أن التغيير الذي يطمح له الموريتانيون سينتصر بتفاعل القوى السياسية والاجتماعية الحاملة لبرامج ورؤى مجتمعاتية. وإلا فإن المنظومة، بتعطلها، ستنفجر بصفة لا يمكن التحكم فيها تحت تأثير السخط والضجر والارتباك والغضب والضغينة والتهديدات
. القلم: حسب وجهة نظركم، ماذا يمكن أن يعيد تشغيل ماكنة الحوار؟
أحمد سالم: بكل بساطة، يمكن إعادة تشغيل ماكنة الحوار عندما يبعث النظام بإشارات قوية تبرهن أن الحوار هو خياره الحقيقي، وأن يرد على عريضة المنتدى ويقوم بربط الصلات بهذا الخصوص
.القلم: في الوقت الذي لم يتمكن فيه النظام والمعارضة من التفاهم، هل هناك حاجة لطريق ثالث؟
أحمد سالم: كل الطرق يجب أن تقود إلى الحوار، والتهدئة، وتسوية القضايا الاجتماعية، ومحاربة الإرهاب من خلال التعاون الدولي، وربط صلات مباشرة بالمواطن بغية الاهتمام بمشاغله وتحسين ظروف عيشه، ودَمقرطة البلاد، وتقوية العدالة، والتسيير المحكم والمتوازن لمصادر البلاد.. إن الطريق الوحيد الذي يجب أن نسلكه اليوم هو ذلك الذي يمَـكــّـننا من جعل البلاد تتحاشى الانفجار.
القلم: تعتبرون فعلا أن التهديد جدي؟
أحمد سالم: نعم. إننا نعيش وضعا محتقنا يُـخشى من أن ينفجر في كل وقت. هذا الوضع عبارة عن معطى جديد يتوجب على الجميع التعامل معه، ويجب أن يُـدمج في كل المشاريع. موريتانيا تعيش توترات فئوية يشجعها فتور السلطة. الخطر الذي يهددنا في هذه الظروف هو تـقــَــــوْقــُـــع كل شخص في مواقفه اليقينية واصفا الآخر بأنه المسؤول عن كل مآسيه. في هذا السياق يبحث كل شخص عن من يشبهونه أكثر ليتموقع معهم، جنبا إلى جنب، ضمن هوية تضيق أكثر فأكثر.
لقد استبدّ التطرف في موريتانيا بجزء تائه من مواطنيها خاصة الأجيال الحضرية الجديدة التي لا أفق لها والتي تعيش استياءً عميقا عززه الشعور بالحرمان.
إضافة إلى أن التماسك الاجتماعي في موريتانيا هش. فمجتمعنا ليس مجموعة متماسكة ومندمجة ما دامت سمات هذا التماسك منعدمة (المساواة في الفرص، الولوج الحقيقي للحقوق وللرفاه الاقتصادي الذي يمكــّـن كل شخص من المساهمة الفعالة في المجتمع والحصول على الاعتراف به ضمن نسيجه). كما أن موريتانيا مهددة على الخصوص بالإرهاب. الظرف خطير إذن.
ومسؤولية النظام بديهية، وسبب وجود المنتدى هو طي هذه الصفحة. لكن الوضعية تستدعي اهتمام كل الموريتانيين، خاصة النخبة. إن علينا أن نتدارك الوضع قبل فوات الأوان. وإن على الموريتانيين اليوم أن يتحملوا مسؤولياتهم؛ والذين يتركون البلاد، عن قصد، تنجرف نحو الهاوية، بالرغم من صرخاتها المستنجدة الكثيرة، عليهم أن يتحملوا المسؤولية أمام التاريخ.