ما تمنيت يوما ما أن أكتب نصا تحت عنوان كهذا الذى تطالعه اليوم. لأننى ما تخيلت أن تصبح ليبيا أو أى بلد عربى شقيق «جحيما» للمصريين، والعكس صحيح بطبيعة الحال.
.مع ذلك فقد تخيرت العنوان كارها له ومستهجنا ذكره فى إحدى صحف التحريض والإثارة المصرية يوم الجمعة الماضى (8/3). وكانت الصحيفة قد نشرت على صفحة كاملة تقريرا عن المصريين العائدين من ليبيا أخيرا، وما واجهوه من عنت ومعاناة من جانب بعض المواطنين ورجال الجمرك الليبيين. وفى التقرير تفاصيل لسيل من الوقائع التى إن صحت فإنها تعد من قبيل الإهانة والمعاملة غير الكريمة التى لا تليق بأى مغترب راغب فى عبور الحدود، ناهيك عن أن يكون المغترب «شقيقا» بل أقرب الأشقاء، وحتى إذا كان هناك قدر من المبالغة فى تصوير الإهانات التى تعرض لها المصريون العائدون، فالقليل منها يبعث على الاستياء ويبرر المؤاخذة والعتاب، لذلك فليس لدى أى دفاع عما جرى ولكن تحفظى منصب على أسلوب تناول الموضوع وكيفية توصيل العتاب المفترض إلى الليبيين أو أى شقيق عربى آخر.
إننا إذا أعطينا ما جرى حجمه الحقيقى دون تهويل أو إثارة، فسنجد أنه بمثابة سوء تصرف ومعاملة فظة وجارحة من جانب بعض المواطنين وعدد من جنود الجمارك الليبيين، وهؤلاء ليسوا الشعب الليبى ثم إن ما بدر منهم لا يبرر الإدعاء بأن ليبيا صارت «جحيما». وإذا افترضنا جدلا أن هؤلاء كانوا حفنة من الأشرار، فلابد أن نعترف أن أمثالهم موجودون فى كل بلد، ومصر ليست استثناء من ذلك بطبيعة الحال. ومن المهم فى هذا الصدد أن نفرق بين ما إذا كان ما جرى سلوكا يحسب على بعض الأفراد وسوء تصرفهم، أم أنه تعبير عن سياسات الدولة، وهو الاحتمال الذى أشك فيه كثيرا.
أفهم أن ثمة مشكلات عالقة بين مصر وليبيا سبق أن أشرت إلى بعضها، لكنها ينبغى أن تحمل باعتبارها من قبيل ما يقع بين أفراد الأسرة داخل البيت الواحد. وأيا كان حجم تلك المشكلات فينبغى أن يكون لها سقف محدد لا يسمح بتجاوزه على النحو الذى يهدر الأهمية الاستراتيجية لاستمرار الوفاق وتبادل المصالح بين البلدين. وهو ما ينطبق بذات القدر على العلاقات مع السودان، وقد سبق أن قلت إنه أيا كانت الظروف والملابسات فينبغى ألا يسمح بخدش أضلاع ذلك المثلث الذهبى، ليس لأسباب استراتيجية فحسب، وإنما أيضا لأن ما بين مصر وليبيا والسودان وشائج أعمق وأقوى مما بينها وبين بقية الأشقاء العرب، ولأن الأمر كذلك فإننى أزعم أن العبث بتلك الوشائج وتلويثها بأية ادعاءات حقيقية أو مفتعلة يعد من قبيل الخفة والممارسة غير المسئولة، التى تستهدف تحقيق الإثارة بأى ثمن، حتى إذا كان ذلك الثمن يصب فى مجرى تمزيق الوشائج والمساس بالاعتبارات الاستراتيجية المرتبطة بالمصالح العليا.
إن أحدا لا يستطيع أن ينسى الآثار الكارثية التى ترتبت على ما جرى فى مباراة كرة القدم التى حدثت بين مصر والجزائر، وكيف أنها انتهت بإهانة الشعبين وبإثارة الضغائن فى بعض الأوساط بين أبناء البلدين الذين ظلوا يتبادلون مشاعر المحبة والاحترام طول الوقت. ورغم مضى أكثر من ثلاث سنوات على تلك المباراة البائسة، إلا أن آثارها للأسف لا تزال حية فى الذاكرة مشوبة بحساسيات ومرارات يبدو أن من الصعب محوها فى الأجل القريب.
ما حدث مع الجزائر له نظيره فى علاقات مصر ببقية الدول العربية، التى قد تنفجر فى بعضها أحداث يبالغ فى حجمها أو تصدر فيها تصريحات مسيئة على لسان بعض مسئوليها، لكن إعلام التحريض والإثارة ينفخ فيها بما يحول الشرارات إلى حرائق تلتهم الوشائج وتباعد بين الأشقاء، وهو ما ينسينا أن كل طرف بحاجة للآخر فى نهاية المطاف، فمصر بغير العرب أضعف ما تكون كما أن العرب بغير مصر أضعف مما يظنون. وإذا كانت مصر قد قدمت إلى العرب الكثير فإن العكس صحيح أيضا، لأن العرب بدورهم قدموا لمصر الكثير. ولا مجال لأن يمُن أحد على أحد فى ذلك. لأن كل طرف قام بواجبه تجاه الآخر. وإذا اختلت تلك المعادلة تحت أى ظرف، فإن ذلك ينبغى أن يعد استثناء لا يلغى الأصل ولا ينسيناه.
لست أشك فى أن ثمة أطرافا ــ خارجية فى الأغلب ــ تسعى للإيقاع والجفاء بين مصر وأشقائها. وهؤلاء أمرهم مفهوم ثم إنهم يخدمون أهدافهم ومخططاتهم.
أما الذى ليس مفهوما أن تسهم رعونة بعضنا فى ذلك، لأن تحقيق مرادهم هو الجحيم بعينه.