صدرت للشاعر والروائي الموريتاني المختار السالم رواية جديدة بعنوان "وجع السراب" عن دار القرنين للطباعة والنشر في نواكشوط، وهي ثانية رواية تصدر له وكانت الأولى بعنوان "موسم الذاكرة"، وتقع الرواية الجديدة في 232 صفحة من الحجم المتوسط،
.ويعود فيها المختار السالم بقلمه الخبير في الحكي إلى حقبة القرون الماضية في موريتانيا، زمن البداوة والتنقل في آفاق الصحراء الواسعة، في الرقعة التي تسمى أرض البيظان وذلك من خلال سيرة بطل الرواية "عتاق" المحارب الأصيل الذي عاش حياته فوق صهوات الخيول، وتحت لعلعات الرصاص، مغيرا أو مغارا عليه.
تبدأ الرواية بسرد استرجاعي يتذكر فيه (عتّاق) مسيرة حياته، ومحطاتها المختلفة: (ففي عام الحنين تبخرت والدته "مشتل" مخلفة ذكرى غيمة، وحزنا لا تنطفئ شموعه، وفي "عام الجرب" كانت وفاة والده، وفي ذات العام كان عشقه الأول "الزينة"، وفي "عام النعمة" التقى "بركات"، هو الآن يدرك كم كان محظوظا بذلك السحر المتوهج، وفي "ودان"، و"تيمبتكو" و"كومبي صالح"، وأوكار الأبكم"، و"قصير الطرشان"، و"الوادي الأبيض".. (إلخ) .. كتب بحافر فرسه أسطورة المجد على ثرى التراب".
تغرقنا الرواية في سلسلة من الأحداث المتصلة والملتهبة التي عاشها ذلك الفارس الذي لا يعرف السكينة، ولا يرجع من غارة إلا ليستقبل أخرى، سلسلة تصور قسوة الحياة وأسطوريتها حين يكون عنصر الطبيعة القاسية هو العدو الكامن في منعطفات تلك الحياة، وهو الطريق الطويل الموحش المجدب الذي يسقط عليه البشر واحد إثر الآخر قبل أن يبلغوا النهاية المعشبة، لكنهم رغم ذلك لا يهربون ولا يتراجعون بل يواجهون مصيرهم بشجاعة وحب وإنسانية، وأيضا بخوف وكره ووحشية.
في رواية "وجع السراب" يرافق المختار السالم قراءه عبر طيّات الزمن في رحلة سردية سادرة في التشويق والإثارة مستحثّا الذاكرة الجمعية لموريتانيا ما قبل الدولة الحديثة وناسجا من خيوط الأحداث وإحداثيات الأمكنة وملامح البشر لوحة سردية مكتملة العناصر...
تدور أحداث الرواية في "أرض البيظان" بين مرابع القبائل ومناهل المياه في تخوم الصحراء الكبرى وعلى شواطئ الأطلسي، في هذه البيئة البدوية الساحرة بين الجبال والأحراش والوديان، يتحرك الكاتب في إطار مشوق، متجولا بين الأمكنة والمعالم التي شكلت على مر الزمن المجال الحيوي للقبائل العربية والصنهاجية.
ولأن الرواية بلا خيال فنُّ مستحيل، يمضي المختار السالم في روايته الجديدة مازجا التاريخ بالخيال والموروث بالمتصور، مغذيا احتدام الصراع الدامي والتراجيديا الاجتماعية في التاريخ القبلي لبدو الصحراء الكبرى وحروبهم الطاحنة التي تفتك بمجتمع، في ذروة التأزم والتشرذم.
وبين إرادة الحب، وتناقضات الواقع، في حوار شائق بين العلم والسحر، بين الكهانة والعرافة وبين التجربة، والمعرفة، وبين الموسيقى والشعر تبحر الرواية بلغتها الشائقة الرشيقة، غائصة عميقا على جذور نشأة وتكون المجتمع الموريتاني، راصدة معالم النشوء من خلال سيرة البطل "عتّاق" الذي يخوض غمار صراع حياة أو موت مع إخوته الأعداء على زعامة القبيلة البدوية، وفي شخوص "وجع السراب"، تحضر جميع المكونات الإثنية للمجتمع البيظاني القديم متمثلة قيم وأعراف وتقاليد بدو الصحراء.
تستحضر الرواية العوالم الروحية والصوفية لبدو الصحراء الكبرى، وتجمع آثار الحياة البدوية لتعيد تشكيل حياة موريتانيا ما قبل قرون من الزمن، حيث يبرع الروائي في استعادة تفاصيل حياة المجتمع التقليدي بدقة متناهية وقدرة فائقة.
سعت الرواية لرسم أدراما عن حياة مجتمع "البيضان" (عرب الصحراء) خلال القرون الماضية، وذلك من خلال الصراع على الحكم بين الأمير "عتاق وإخوته، بمساعدة من أمراء المناطق الأخرى، ومن خلال أحداث وشخوص الرواية، يتضح أن الروائي، رسم ملحمة درامية متنوعة المشاهد بين الحروب والمؤامرات، الصراع بين إرادة الحلم وإرادة البقاء، الفروسية، والعلم، حركية الأعراق والشرائحية، الحب، والخيانة، الشعر والموسيقى، والخرافة، والدجل. وبما يوحي أن رواية "وجع السراب"، ومن خلال الحكاية الأم، والحكايات المتفرعة، والمشهدية السريعة، المضبوطة بإيقاع سرد شاعري متمكن، أكدت انتماءها لرواية ما بعد الحداثة، واقتربت إلى حد كبير بأدواتها الفنية الخاصة من كتابة التاريخ الاجتماعي لقبائل وإمارات الصحراء الكبرى.
قوبلت الرواية باحتفاء كبير من طرف النخبة الإبداعية والثقافية الموريتانية، وكتب الشاعر الكبير ناجي محمد الإمام، الملقب ب"متنبي موريتانيا"، واصفا "وجع السراب" بأنها "رواية "جديدة" بالمعنى الإبداعي".
وأضاف "إن رواية “وجع السراب” إعادة لتفكيك “وجعنا ” و”تشييئ” سراب أحلامنا لإعادة تركيب “حلم” استعصى في الواقع ….فلنجرب أن نقرأ تاريخنا في “اللازمان “و”اللامكان” لعلنا نستطيع يوماً أن نستعيد لحظته الزاهرة".
وقال "إنها رواية ” جديدة” بالمعنى الإبداعي ، وستحتل مكانتها الخاصة في مقدمة أفق سردي / روائي يتجسد الآن وتستدعيه حتمية الخروج من النمط الإتباعي المتكاهل السائد، هو ما أسميه :”رواية اللازمكان” القادمة"..
أما المفكر والروائي الموريتاني محمد ولد أحظانا، الفائز بجائزة الدولة التقديرية مرتين، فقد نشر مقالا مطولا عن الرواية تحت عنوان "وجع السراب وأنموذج الإبداع الحاضن"، كتب فيه قائلا "إن الكاتب المبدع والشاعر الإنسان، المختار السالم أحمد سالم استطاع إحلال الفكرة التي تدور على العبثية الضاربة في أعماق حياة الإنسان في الصحراء ضمن النموذج الحاضن الذي هو السراب، السراب الذي يبدأ بخدعة الأمل في البقاء، وينتهي بدهشة الفناء وخيبة الزوال، بضياع الحصيلة الكلية. بنفاد الوجود من معناه".
واعتبر المفكر الموريتاني ولد أحظانا "أن إحداثية الإبداع في رواية "وجع السراب" رسمت حركتها في الأفق الفاصل ما بين النموذج الحاضن للمنظور الروائي، والفكرة الناظمة لرؤية الكاتب".
أما الشاعر والمخرج السينمائي محمد ولد إدومو، فقد أكد أن "وجع السراب" هي "نقطة بدء (أو انعطاف إن شئتم) في مسار الرواية الموريتانية.. إنها ملحمةٌ وطنيةٌ، سفرٌ في الأسئلة الكبرى لبدايات تلاقي هذا الخليط البشري الذي يستوطن الأرض السائبة، واستنطاقٌ لسؤال التشكل الذي ظل عصيا على مجرد الطرح".
ورأى أن البناء الدرامي المحكم لرواية من خلال شخوصها وفضائيها العرقي "يؤسس لسؤال الهوية بأسلوب جريء".
واعتبر ولد إدومو أن الروائي "سرد حكايات وقصصا نكاد نعرف قصصا تشبهها دون أن نجازف بقصها"، وأنه "بنى أحداثه بكثير من الحبكة والمفاجأة وإعطاء قيمة مضافة للمشاعر التي يمكنني أن أتجرأ وأقول إنها كانت البطل الغائب في كل فصول الرواية".
أما الدكتور الشاعر خالد عبد الودود، فقد أكد أن رواية "وجع السراب" ملحمة تاريخية ودرامية هائلة، قائلا "إن رحلة "الأمير عتاق" بين ظهور الخيول وبطون النساء هي رحلة كل واحد منا في دروب الحياة الممتلئة ألــــمًا وأملا".
ورأى أن "وجع السراب" هي ملحمة تاريخية ودرامية هائلة تحتوي الحقائق التاريخية والفانتازيا والموسيقى والشعر والحرب والحب والحياة والموت وهي بذلك تناقش أسئلة وجودية كبرى بالنسبة لنا في هذا المنتبذ القصي".
القاص أحمد ولد إسلم، وصف رواية "وجع السراب"، بأنها "نمط جديد في السرد الغرائبي يروي الكثير من الأحداث المستمدة من تاريخ أرض السيبة، ونقل لصورة حقيقة أو مرسخة عن الطبقية التي أسس لها اختلاط ثقافات مختلفة في غياب سلطة مركزية".
وأضاف "في الرواية تشابه أسلوبي مع رواية مائة من العزلة، وتتفوق على الأخيرة في طغيان صورة المرأة السلعة، وحيوانية الغريزة الجنسية .. ربما هذا ما كان موجودا أو ما تخيله الكاتب... لكن اللغة المنسابة للكاتب، وتوقفه خطوة واحدة دون الخط الأحمر الاجتماعي، جعل الرواية سلسة ومشوقة، وغير جارحة إلا لذوي القلوب الضعيفة..".
واعتبر أن رواية "وجع السراب" تؤسس لنمط من السرد التاريخي السائر في حقل ألغام اجتماعية يصعب تفادي انفجار مفاجئ فيه في أي لحظة، ولكنه حقل لا بد من عبوره"، وفق تعبيره.
والمختار السالم هو عضو باتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين ويتوزع نشاطه الفكري بين الشعر والرواية والصحافة، صدرت له حتى الآن أربعة كتب هي: "سراديب في ظلال النسيان" (شعر)، و"موسم الذاكرة" (رواية)، و"القيعان الدامية" (شعر)، و"وجع السراب" (رواية).