ألف المؤلفون في أسباب الخلاف بين النحاة، و أسباب الخلاف بين الفقهاء، وبين الفلاسفة، و بين المفكرين فجاؤوا بكتب شيقة تفيد القارئ وتعلمه الإنصاف والتسامح وتقبل الغير.
أما السياسة فلا أدرى هل صنف فيها شيء من هذا القبيل ،
والظن قوي أن أطواد علم السياسة ما كانوا ليهملوا هذا الجانب فيما سطروه بهذا الخصوص، إن لم ينصوا عليه بالتصريح فهو موجود في أسفارهم بالضمن، ولقائل أن يقول ، بادئ ذى بدء، إن الخلاف بين السياسيين ينبغى أن لا يوجد لأنك لو سألت أي سياسي عن هدفه لقال لك : "صلاح المجتمع و الخروج به من هذا الوضع المتردى إلى غد مشرق وضاء" و ما دام الهدف متحدا فما معنى الإختلاف؟
أو يقال : الإختلاف إنما هو في الوسائل لا في المقاصد، فكل من الرأسمالي العنيد و الشيوعي المريد يسعى في هدفه المعلن، إلى تحقيق العدالة و الرفاهية للشعب لكن الأول يرى أن ذلك لا يحصل عليه إلا بالليبرالية المطلقة و أخواتها، والثانى يرى أنه لا يتم إلا بثورة حمراء تشنها الطبقة الكادحة على الطبقة الرابحة فيقتسمون الخبز من كل حسب طاقته و لكل حسب حاجته.
لا و كلا فأسباب الخلاف بين السياسيين أكثر من ذلك و أعمق ، و إنه لجهل بالطبيعة البشرية أن نحكم على الخلافات السياسية على أنها خلافات في الوسائل لا في المقاصد، فإن من استقرأ التاريخ بمختلف حقبه سيدرك بداهة أن الخلافات المذهبية و الفلسفية غالبا ما تكون غطاء لأسباب أقرب إلى الأرض واعتبارات نفعية محضة لا علاقة لها بالمبادئ السامية المرسومة في المواثيق و الوثائق و اللافتات و الملصقات و هذا يفسر ما اشتهر عند علماء التاريخ من أن الثورة تأكل أبناءها بمعنى أن أقطابها إذا كتب الله لها النجاح ، لن يلبثوا أن يتنازعوا على السلطة فيقتل بعضهم بعضا أو ينفي بعضهم بعضا بعد أن كانوا إخوة في المذهب و النضال.
و إذا تمهد لديك هذا فاعلم أن من أهم أسباب الخلاف بين السياسيين حب الزعامة و الرئاسة و لأمر ما كان حبهما هو آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حسب تعبير أهل المجاهدات.
إن حب الزعامة هو الأصل في كل انحراف عن جادة الطريق وهو ما تنقسم بسببه الأحزاب الكبيرة إلى حزيبات صغيرة تحكى انتفاخا صولة الأسد كل حزيب بما لديهم فرحون.
ومن أسبابها أيضا أن يكون زعيم الحزب فظا غليظا مستبدا و هذه حقيقة وردت في التنزيل فالفظ الغليظ ينفض الناس من حوله ليستريحوا من شره و يتحرروا من نيره فإنك أن تعيش زعيما مستقلا تجرى في الخلاء خير لك من أن تظل ترزح تحت وطأة جبار عنيد لا يعطيك من الأمر شيئا، إن أحسنت نسبت حسناتك إليه، و إن أسأت نسبت سيئاتك إليك.
ومن أسبابها أيضا الحرص على المنافع الشخصية و هذا ربع عزة، و الغريب في الأمر أن الديمقراطية الغربية مبنية على هذا المبدإ فهي تجيز لكل مواطن إنشاء ما شاء من الأحزاب و التكتلات للدفاع عن مصالحه الشخصية و مصالح ذويه و أهل بيته و حارته و قريته، و لا يقيده في ذلك إلا قيد القانون و هذا أمر يستغله السياسيون في الحملات الانتخابية فيعدون أهل كل تكتل بالخير و المير إذا هم صوتوا لصالحهم، و لا بد لهذه العهود أن يكذب كلها أو جلها ، لذلك صارت عبارة " وعود انتخابية" مرادفة عند الناس لعبارة "أدراج الرياح" و الحقيقة أن السياسيين معذورون في عدم الوفاء بما قطعوه على أنفسهم لأن طبيعة التناقض بين هذه الوعود تقتضى استحالة الوفاء بها جميعا ضرورة أن النقيضين لا يجتمعان.
ومن أسباب الخلافات السياسية أيضا وجود الصراعات القبلية و العرقية و المذهبية تنعكس على المجال السياسي، فبدلا من أن تكون السياسة تجب ما قبلها و تضمحل أمامها تلك الاعتبارات و ينصهر في بوتقتها التبر و التبن و الضب والنون ، نجد السياسة تتلون تلون الحرباء و تأخذ لون القطعة الأرضية التى تمشى عليها، فهي هنا تغلبية و هناك بكرية وهي هنا نجدية و هنا تهامية.
بيد أن من تلك التكتلات التقليدية من ينتهج في السياسة استراتيجية "التفريق بين المنايا" فيبعثون في كل تكتل حزبي "ممثلا "عنهم فهم في كل احتمال غالبون و غانمون عكس غيرهم ممن يزجون بوزنهم كله في كتلة واحدة فإذا نجت نجوا و إذا هلكت هلكوا فهم من أمرهم على خطر.
و للخلاف بين السياسيين أسباب أخرى مرجعها إلى المزاج و الطوالع والنحوس و السعود و هي أمور لا دخل للسياسين فيها على ما نرى و لذلك أحجمنا عن تحليلها هنا و الله أعلم.
بقلم : الأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف
نقلا عن موقع انيفرار