دواعي ملحة لحوار بعد 6 سنوات من ممارسة الديمقراطية، هو ما يثير التساؤل الكبير. ومع ذلك لن يبدو الأمر غريبا بالنسبة للموريتانيين الذين يعيشون على غيظ سياسي لا يريد أن ينفك منذ أمد,
.
وكل ما أوشكوا على التخلص من نظام عاجز أو فاسد حل محله نظام أكثر منه عجزا وتطرفا إزاء قضايا البلد.
إنها دوامة تكاد تقتل المجتمع المدني في الدولة، بل والحلم ببناء دولة قابلة للاستمرار، بل وكل مظاهر البهجة بالديمقراطية. إن المشكلة العميقة أنه مهما تغير الجيل الذي يحكم من العسكريين لا يتغير الهدف (الوفاء للأصل الأول) وهو عدم ترك السلطة أبدا كاملة في يد المدنيين.
هذه هي مشكلتنا، لكن بأيدينا نحن المدنيين، فكيف ننسلخ من هذه المشكلة التي أوقعنا فيها أنفسنا أولا، ثم المجتمع والدولة ثانيا، أو كيف نكفر عن جريرتنا تلك؟.. إنه تحد عظيم.
حملت 2005 طالع سعد كبير للبلد لرفع ذلك التحدي وكسب الرهان، لكن -وللأسف- انقسم الطيف السياسي، بل المنتفعون من سقوط معاوية، إلى قسمين: من يريد أن تكون المرحلة الإنتقالية فرصة لإحداث تغييرات هيكلية في النظام العام الذي يحكم الدولة والمجتمع، ومن يعتقد ـ ومن دون أي مساومة ـ أن إصلاح البلد مرهون بوصوله هو للسلطة، لا غير. وفي ثنايا ذلك الخلاف الخفي الذي شكل دينامية المواقف السياسية لتلك الحقبة، وألغى بظلاله على المراحل اللاحقة، ضاعت فرص ذهبية عديدة، ليست فقط تلك التي أتاحها الجيش للتخلص منه في السياسة، بل وأيضا الحفاظ على الإنسجام الذي يمنح القوة الكبيرة للوفاق الوطني واحترام مقتضيات عملية التحول.. فهل سنكرر تلك النكبة ثانية؟..
لقد كان حكم عزيز نكسة بكل قوة الكلمة بالنسبة للوفاق الوطني، فقد حلت خطوط الإنكسار محل خطوط التوافق، وصار المجتمع يواجه نفسه في أكثر من قضية، وتم النكوص عن كل المحظيات. لهذا لم يكن من محيص عن العودة بالسياسية إلى الخطوات الأولي التي هي: التفاهم على حدود العمل الوطني قبل الحديث عن المنافسة والصراع. أفلا يمكن أن نعتبر2015 عطية من الله لتصحيح تلك الأخطاء المميتة؟..
من الواضح أن المعارضة واجهت دعاية بأقصى قوة النظام ، ولم تكن مشكلتها الأساسية ضعف العزيمة، لكن الصدق مع الوطن. ليس الصدق بمعني الوفاء، بل الذي يعني المطامح. وقد تم تخدير الشعب بأكمله بفعل تلك الدعاية ـ بما في ذلك المثقفون والشخصيات المرموقة ـ حتى صار الكل بحكم الغوغاء. ولهذا أيضا صارت الفرصة مواتية لتهميش المعارضة وتدمير أحلامها. وحدهم الصبورون هم من يعول على فرصة للمعارضة في التاريخ، في طي المجهول، لكنهم على دراية على نحو يقيني أنها لا تملك زمام المبادرة لتوجيه العملية السياسية، ففي كل مناسبة يتم جرها إلى ميادين صراع شكلي ومواقع للرد باستمرار كما يتم دحرها في الانتخابات حيث تحجز لها النتائج مواقع لا تعطل مسار الأنظمة مهما كانت كارثية .
نحن اليوم في دولة خائرة القوى والكل يعيش حالة إرهاق سياسي، والخوف من عدم الإستقرار. الدول الغنية تبيع كل ثروتها اليوم مقابل استتباب الأمن. وقد أثبتت التجربة أنه لا يوجد حل أفضل للفوضى إلا عدم الوقوع فيها. صحيح أننا لم نستفد من سنوات الوفرة التي عرفتها الدولة، كما لم نستفد من شعار الإصلاح الذي ظل يجري له الترويج في محيط النظام لتبرير انقلاب وقح، مع أن إصلاح عزيز لم يكن في الحقيقة سوى تحسنا طفيفا في أعداد المفسدين. لكن الرقم قفز مرات في السماء مما خلق نظرة مريبة لأي شعار إيجابي . كما أصيب الجميع بخيبة أمل في المسار السياسي بفعل الديمقراطية القمعية التي لا تضمن النجاح ولا الأمان لأصحاب الرأي المستقلين، لكنها تضمن مزايا لتابعي العمي والخاضعين بلا هوادة .
مرة أخرى، ليست محاكمة النظام حاليا هي الرهان قياسا بالحفاظ على البلد في الحدود التي يمكن معها تسوية الاتجاهات الرامية إلى التمايز. وبهذا يكون الحوار رمزا قويا لتشبث الموريتانيين بأمن وسلامة بلدهم رغم ما واجهوه من سياسات ظالمة على أيدي حكام انبجسوا إلى الوجود السياسي بمعجزة تاريخية، وليسوا محترفين ولا غيورين على المساواة.
صحيح أن عزيز يمارس سلطات مشروعة ـ لا أعني التمتع بالشرعية ـ لكنه يواجه شبح تداعيات سوء إدارة البلد والفردانية، وشبح الإضطرابات الداخلية التي انهار فيها الدخل والأمان الشخصي وتزايد ضعف مقاومة الظروف رغم مرور 10 أشهر على إعادة انتخابه بعد مأمورية حافلة بتضاعف دخل الدولة. لم تتحرك موريتانيا عن موضعها بالنسبة لغموض المستقبل وانعدام الرؤية عن العهود السابقة، لكن زاد نهم التجار المرتبطين بالنظام، وزادت عبثية المجرمين وسطوتهم في الشوارع ونشر الخوف في الأحياء البعيدة من وسط المدينة، وهبطت أخلاقيات الشباب ومستويات القوى العاملة ، وتضافرت العوامل بما يكفي للخوف يقينا على البلد. وبدلا من التوحد، صار المجتمع يتشظى بفعل الدعاية الشوفينية الضيقة التي لا تستند لفكر مدني وتفتقر لأسانيد العقل والمنطق. فإلى متي نترك البلد فريسة لهذه الأوضاع التي تنخر جسمه؟.. بدلا من انقاذه، فلابد من حوار يزيح هذا النظام برفق، ويسمح بعودة البلد، بل بالأصح بوضعه على طريق يضمن له تجاوز المخاطر المحدقة.
ليس الأمر رخوا هينا كما يتصور بعضهم، فمسار التفاوض مع ولد عبد العزيز ظل مشوبا بعدم الوفاء بالتعهدات لكي لا نقول بالغدر. كما أن المحصلة النهائية للتعاطي معه أثبتت أن مصلحته فوق كل اعتبار، وقد جلب ذلك الكثير من المخاوف للطبقة السياسية، وكرس تلك المخاوف تجاوزه لمسعود ولد بلخير في الإنتخابات الرئاسية بعد مسار طويل من التفاوض والوعود بمنح الضمانات اللازمة بشفافية العملية ـ دون أن يرف له جفن .لقد كانت الهوة سحيقة وكانت الثقة في نظام ولد عبد العزيز رثة ، بل لم يكن نظامه يوحي بنزر من الاطمئنان، بل كان يخدم قلة من الناس ولهذا -وبقوة رجل ـواحد كنموذج من مجموعة أخري من الرجال ـ تحول مرفق عمومي ـ الحالة المدنية ـ من خدمة مدنية إلى امبراطورية للشطط وقطاع جباية ومركز للتشريع .
إنه إرث ثقيل لكنها أيضا صفحة يجب طيها بأمان لكي لا تولد صفحات أخري تسطر من خارج التعهد للثوابت وتدير ظهرها للتاريخ. لابد من المشاركة في رسم معالم المستقبل أو على الأقل تحديد الإتجاهات بعد عزيز، فليس حصيفا تركه يخطط للمستقبل وفق رؤيته وبكل حرية، أو يخطط لوحده مسار خروجه من السلطة أو أن يستبد بالرأي العام أو بجملة الناخبين الأوفياء لكرسي السلطة لإحداث تعديلات في الدستور أو تنصيب خلفه. إن مزية الحوار هذه المرة هي لمنع ذلك، ووضع خيارات محددة أمام ولد عبد العزيز للخروج من السلطة. إن الحوار الآن يختلف عن كل الحوارات السابقة، فعلينا أن نمنع ربع قرن من حكم عزيز، إن لم تجرفنا الفوضى. إنه نداء الوطن.. فهل من مجيب؟..