التحالف الذي يشكله الغربيون الآن لمواجهة مما يسمى "داعش" أو "الدولة الإسلامية" يطرح على العرب مسؤولية غير مسبوقة، حتى على العرب في الأطراف، لأنه عندما يكون المستهدف العرب كبشر وكحضارة فلا فرق بين البعيد والقريب منهم
.ولا بين القوي والضعيف. ما يميز العرب عن بعضهم في مرحلة كهذه هو الوعي بحقيقة ما يُكاد لهم من كيد وما ينتظرونه من دمار وموت جماعي ولابد، بادئ ذي بدء، من طرح بعض الملاحظات:
أولا: التحالف الغربي الحالي يأتي بعد تحالفات سابقة: التحالفات التي استهدفت تدمير العراق، والتحالفات ضد ":القاعدة"، التحالف ضد القذافي.
ثانيا: التحالف الحالي أتى بعد التدمير الكاسح الذي خلفه ما سمي "بالربيع العربي" والذي شمل الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، والذي لم نلمس لدي الغربيين أي اشمئزاز منه أو أسف عليه، بل لاحظنا ارتياحا لديهم لا يمكن إخفاؤه.
ثالثا : هذه التجارب سبقتها وتخللتها عدوانات وعداوات تبدو للكثيرين وكأنها سلسلة متواصلة مع الزمن لا تتوقف.
من أبرزها العدوان الثلاثي الفرنسي ـ البريطاني ـ الإسرائيلي عام 1956 والعدوان الثنائي الإسرائيلي الأمريكي عام 1967 والحروب والحملات المتتالية علي الفلسطنيين و آخرها كان على غزة في الشهر الماضي.
رابعا : كل هذه العدوانات والحروب والحملات والتحالفات المعادية ولدت بتراكمها وبسرعة وتيرة تلاحقها. شعورا عند العرب بأن الغرب عدو بكامل الكلمة والمعنى، وأنه يتحين كل فرصة ويفتريها إذا لم توجد لتدمير العرب وتقتيل أكبر عدد منهم، إلى درجة أن قول الشاعر القديم أصبح ينطبق عليهم :
ومن يكن سائلا عن أصل دينهم فإن دينهم أن يقتل العرب
خامسا: أيقن الكثير منا، ومن بينهم التقليديون والبسطاء أي الأغلبية الساحقة، أن ما نعيشه في هذا العصر هو "حرب صليبية" خالصة، مثل تلك الحروب التي جاء بها الأوربيون في نهاية العصور الوسطى.
سادسا : تلاشت الثقة بين العرب والغرب إلى درجة لم يسبق لها مثيل، وأصبحت المبادئ والقيم السياسية التي كان الغرب يرفعها ويبشر بها مجرد أضحوكة وينظر إليها كأنها دعاية مبتذلة هدفها السيطرة وتغليف العداوة بقناع خادع براق. سابعا : إن الغرب لم يقدر ولم يفهم ما أوصلته إليه تصرفاته البائسة اتجاه العرب على مدى أكثر من نصف قرن، وما يجري في تخوم أمة عريقة ابتكرت الأبجدية وشيدت أبا الهول والأهرامات، وكان الماء جاريا في مدنها منذ آلاف السنين، مثل دمشق وبيروت، إنه يرى فقط ما ظهر من جبل الثلج أي "داعش".
إن الغضب لم يتفجر إلى حد الساعة، وهو أمر تعامى عنه الغرب إلى الآن وربما يعتقد أنه بإمكانه تسميم نفوس أمة بكاملها بنقيع اليأس والاستسلام وأنه سيسحقه كالفخار ـ كما فعل بآثار بابل وأشور وأنه سيبدده كالرماد كما فعل بالنفط والغاز.
إن تصرفات الغربيين مع العرب تحير العقل واستخلاصاتهم تربك المنطق: يريدون من العرب أن يكونوا كسقراط الذي شرب السم مبتسما! وبعد كل ما فعلوه يتعجبون من وجود "داعش" إنه إفراز كان محتوما، وسيكونون سعداء قطعا، إذا كانت "داعش" هي آخر وأخطر نتاجات تصرفاتهم العدوانية.
"إن الكلب لا يريد الحياة بهذا الثمن" كما قال جونة.
إن الغربيين يتعاملون معنا بشعار : "العصا لمن عصى".
وسوف لن ننسى مقولة توسيديد اليوناني التي تجسدت مرارا أما منا بعد الفين وأربعمائة سنة : "إنه شيء ثابت، دائما، أن يوقف القوى الضعيف عند حده".
إن بعد كل ما عشناه ونراه بالعين المجردة يوميا يعفينا من التعجب من سباحة الغرب ضد تيار رهيب يبدو، حسب أحد المفكرين أن المجتمع السياسي يغوص في البربرية في الوقت الذي يستكمل المجتمع المدني تنوره ،
هل صار الغربيون عكس تلك القوة التي تكلم عنها جوتة تلك القوة التي تريد الشر وتفعل دائما الخير : "إنهم لا محالة، لديهم صورة عن أنفسهم لا تتطابق إلا من بعيد مع الواقع.
إن كل التشريعات المبدئية التي كانوا يتسترون وراءها سقطت،وبسقوطها تحرروا من العوامل و الموانع الكابحة التي كانوا يحاولون تحسين سياستهم ومواقفهم من خلالها.
قال هربرت مركوز: "كلما كانت القيم الأخلاقية بلا اعتبار كلما رفعت الى مستوى عال، فوق الواقع" ولذا لا أحد من الغربيين يمكنه أن يقول شيئا مقنعا ينصت له العقل، قبل الأذن، في ما يخص المبدأ الناظم. للعلاقات بين الشعوب في هذا العصر، عصر الطغيان.
قد يبدو من المفارقات أن تظهر جماعة قومية مثلنا وكأنها تدافع عن جماعة إسلاموية سلفية متحجرة وظلامية لا أحد كان يتصور ذلك ولا نحن قبل غيرنا، ولكن هذا فعل الغربب!
في الواقع أننا لا ندافع عن سياسات ومبادئ وأساليب السلفيين ولكننا ندافع عن العرب كبشر، ولا نستطيع أن نقبل أن يأتي الغرباء ليؤدبوهم. إن الأسرة تضرب أبنائها الضاليين ضربا مبرحا ولا تقبل أن يخاطبهم شخص آخر بكلمة سوء واحدة لو كنا رأينا في الماضي تحالفا غربيا ضد الجيش الجمهوري الإيرلندي الإرهابي، أو راينا في الحقب القريبة تحالفا غربيا ضد الإرهابيين الباسك لتفهمنا الموقف الآن، ولكن لم نرى إلا تحالفات حاقدة على العرب تحت ذرائع شتى ومتجددة. إن "داعش" هم عرب ولا يجوز لآخرين تأديبهم ولو كانت المبادرة صادرة من الرئيس عبد الفتاح السيسي أو الملك عبد الله بن عبد العزيز أو عبد العزيز بوتفليقة أو رئيس دولة الإمارات أو غيرهم من العرب لتفهمنا أو رفضنا ولكن لا يهم الأمر إن كان هذا أو ذاك إذا بقية الأمر في حظيرة أهله وبدون حساسية ولا خلفية تاريخية مثيرة ولكننا لم نرى في الواقع وفي العمق إلا الغربيين ورأينا الفرس والترك يتحفزون للحصول على نصيب من الغنيمة.
إن العرب لن يرتاحوا لتقتيل عرب آخرين ولو كانوا "داعش".
إن تحفظاتنا على "داعش" ليس هذا هو مكان سردها ولا هو وقته لأنه خلق سيئ أن نتشفى فيهم وهم يتعرضون لنيران الغربيين الظالمة في الوقت الذي يراد من خلالهم تسديد رصاصة الرحمة إلى الأمة العربية بأكملها.
لا شك أننا نرفض الطائفية المقيتة ونرفض كل الرفض المساس بحقوق ومكانة أبناء شعبنا من المسيحيين الرائعين في مصر والشام الكبير والعراق ونقدر بإعجاب وطنيتهم التي لم تشب عبر العصور ونقدر أعلى تقدير إسهاماتهم التاريخية في تحرر العرب ونهضتهم الثقافية الحديثة ونعتبر أن كل مس بحقوقهم المقدسة ومكانتهم العالية ودورهم الرائد هو إضرار بالأمة العربية وخدمة مجانية مكشوفة للاستعمار والصهيونية.
لم نكن موافقين على كل سياسات صدام وخاصة احتلاله للكويت الذي هو مساس ضار بمبدأ الوحدة العربية ولكننا نرفض الطريقة الذي قضى عليه بها، كما أننا نرفض انطلاقا من نفس المبدأ الطريقة التي قضي بها على القذافي مع أننا كنا نرفض الكثير من سياساته وأطروحاته لكن دافع القضاء على الاثنين كونهما عربيين يرفضان إخضاع أمتهما السؤال الوحيد الجدي المطروح الآن هو على الغرب وعلينا نحن أيضا، هو هل الغرب بالذات مستعد للتعايش معنا والسماح لنا بحق الوجود كما يعطيه لـ سريلانكا، الهند وتركيا وبابوازي ـ غينيا الجديدة؟ وإذا كان الجواب إيجابا فما البرهان؟ إنه قطعا ليس ابتزاز الحكومات العربية وتهديدها لتنصاع لمخططاته الظالمة,
إذا كان الأحتمال الإيجابي واردا فإن وقته قد حان قبل أن يتعبأ العرب في حرب لا تبقي ولا تذر لا بداية لها ولانهاية إن متابعة التقتيل والتدمير لن تكون بحال من الأحوال منتجة للتعايش والتفاهم.
أن حبنا للخير لشعبنا وأرضنا وحضارتنا وتطلعنا للتقدم والرقي والازدهار والسلم الذي هو شرط تحقيق كل هذه التطلعات لا يعني أننا نريد الشر للآخرين بل العكس لأننا نشاطر بعض الغربيين في كثير من الأفكار السامية والأهداف الإنسانية المعلنة.
إننا نعتبر أننا لسنا مع الغرب في أزمة وإنما في مأزق مشترك مثل الفخ الذي يقع فيه الغزال الهارب والذيب الذي يطارده.
ولا نعتقد، في حال من الأحوال، أن الرئيس الأمريكي أوباما يجري في دمائه الحقد والكراهية ولا نعتقد أن في جيناته رغبة في ظلم الآخرين: إنها قناعة صادقة أو كاذبة نعتقدها ونبوح بها من أجل الحق وعلينا ، في كل الحالات أن نتذكر أن صاحب المبدأ و الموقف الصادق هو اليوم كماسك الجمر بأنامله وأنه شقاء لا بد من احتماله.
نواكشوط في 20/10/2014 جماعة الرأي السياسي