إن كان من أمر يثير حنقي بهذا المجتمع في المقام الأول ـ مناصفة مع الاستغلال العشوائي للهاتف المحمول بالفضاءات العامة ـ فهو ميل معظم المساعدات بالعيادات الطبية والكثير من السكرتيرات العاملات بالقطاع الخاص إلى الرد على الاتصالات الهاتفية باستعمال لغة هوبير ليوطي، أول مقيم عام فرنسي و أول من بشر ببزوغ فجر الفرنكفونية بالمغرب وأول من وضع البلاد على سكة الحداثة في بعديها السطحي والعميق.
فهل التحية على الطريقة المغربية أصبحت متجاوزة ولم تعد تفي بالغرض؟
هل أصبحنا من الفقر الحضاري بحيث نحتاج إلى استيراد تحية الصباح وتحية المساء من الخارج؟
هل هذا النوع من التحية ضروري حتى تكون الخدمة كاملة غير منقوصة؟
هل “بونجوغ” ضرورة تواصلية أم مجرد استعراض لعضلات لغوية مضخمة بالبروتين؟
هل باستغنائنا عن اللغة الفرنسية سيصيبنا الصمم والخرس؟
هل هناك ما يثبت بأن ترديد “بونجوغ” على امتداد اليوم يزيد من حجم رقم المعاملات؟
وهل الفرنسيون يردون على المكالمات الهاتفية ب “صباح الخير” أو “السلام عليكم” العربيتين؟ وهل الألمان يردون عليها ب “برونطو” الإيطالية؟
بكل تأكيد، هذا السلوك النشاز ـ و الذي غالبا ما يصدر من فتيات وسيدات ليس لمعظمهن اليوم القدرة على الدفع بالدردشة بهذا اللسان إلى ما هو أبعد من “بونجور” ـ لا تمليه متطلبات النشاط المهني بقدر ما هو رغبة شاذة لدى أمثال هؤلاء في إضفاء نوع من “البرستيج” على فضاء العمل وانعكاس لمقاربة التربية و التعليم لدى العديد من المغاربة ذكورا و إناثا و الذين بمجرد تعلمهم أبجديات اللغة الفرنسية وانفتاحهم على قشور الحضارة الغربية يشرعون وبسهولة فائقة في التنكر لأصولهم وبيئتهم.
لهذا الصنف من المتعلمات المتنورات أقول: التصرف بلطف مع كل من ربط الاتصال بكن شيء جميل فعلا… و لكن “الصواب” يكون بلغة أو لغات البلاد و ليس بلغة أمة أخرى حتى لا يتحول إلى “قلة الحيا”.
السلوك البائس نفسه ألاحظه كلما ولجت سوقا من الأسواق العصرية الكبرى حيث هناك دائما عاملة مجهزة بميكروفون تنحصر مهمتها في بث الإعلانات المتنوعة عبر نظام صوتي داخلي و بلغة ثيودور ستيغ و بلكنة باريسية و كأن كل المخاطبين من عمال ومتسوقين من ذرية نابوليون أو ترعرعوا بالشانزليزيه أو الشوارع المتفرعة عنه أو لعبوا الغميضة في أيام طفولتهم في محيط قصر فرساي و حدائقه. إنها حالة بالغة الشذوذ ولا مثيل لها بكل أسواق العالم ومرافقه العامة واستثناء عصي على الفهم، واستمرار التطبيع مع هذا السلوك اللغوي الساقط دليل صارخ على عجزنا عن تحقيق استقلالنا اللغوي وعلى إفلاس المنظومتين التربوية والقيمية.
أما عندما يقف فاعل أو مسؤول رفيع المستوى أو واطئ المستوى من أي قطاع كان أمام ميكروفونات و كاميرات ممثلي وسائل الإعلام ولا يجد غضاضة في التلذذ بمخاطبة عموم المغاربة باستعمال لغة هنري بونصو في سياق مغربي و بشأن موضوع مغربي وعلى أرض مغربية و تحت سماء مغربية فإنه ـ من حيث يدري أو لا يدري ـ يبصق على وجه شعب بأكمله ويعبر عن غياب فظيع للمناعة الحضارية لديه و لدى كل من يعتبر الأمر عاديا. وهذا التصرف الأرعن يبين الحجم الرهيب للاستلاب الثقافي الفرنكفوني الممنهج الذي تعرفه البلاد و الذي يلمسه الجميع بالشارع و بالمدرسة و على أمواج الإذاعة و التلفزة … بل و حتى بالكثير من البيوت و يرصده الأجانب أيضا بمجرد أن تطأ أقدامهم أرض مطاراتنا و موانئنا.
و على الرغم من الارتفاع المتزايد لحجم الأصوات التي تنادي اليوم بضرورة وقف هيمنة اللغة الفرنسية لاعتبارات موضوعية من المستحيل أن يختلف بشأنها كل أسوياء العالم فإن حظوظ تخلص المغرب قريبا من الإرث اللغوي الاستعماري تكاد تكون منعدمة مادام أن أقدام الفرنكفونية راسخة بمعظم القطاعات بما فيها مجموعة من القطاعات السيادية. الأدهى و الأمر أن حماة هذا التيار اللغوي الثقافي من أبناء جلدتنا أفلحوا أيضا في تنفير قسم من المغاربة من لغة قرآنهم بأن أقنعوهم بأن تعلمها مضيعة للوقت و جعلوها مرادفا للرجعية و التخلف في الوقت الذي ربطوا فيه التمدن و التحضر و الارتقاء الاجتماعي بامتلاك لغة جلادنا السابق. و لم تتوقف جهود هؤلاء عند التأثير على واقعنا اللغوي بل تعدته إلى التأثير على قيمنا الموروثة حتى أصبح المجتمع هائما على وجهه بدون بوصلة و بدون منارة، بل و بلغت شراسة “جهادهم” درجة حدت ببعض الغيورين إلى إحداث تنظيمات مدنية للدفاع عن اللغة العربية، و هذه بادرة لا أعتقد بأن لها مثيلا في العالم بأسره بما أن حماية اللغة الرسمية مهمة منوطة تلقائيا بكل مؤسسات الدولة و بكل مكونات الشعب و ليس بجمعيات لا حول لها و لا قوة.
و يبدو المشهد أكثر تعقيدا عندما نلاحظ بأن الإشكالية اللغوية بالبلاد مطروحة ليس فقط على المستوى الرسمي بل وحتى على المستوى الشعبي،إذ ليس للمغاربة على ما يبدو وعي بأهمية السيادة اللغوية داخل الحدود الوطنية، ومن يطلع بانتظام على تعليقات القراء كلما تعلق الأمر بخبر أو بمقال في موضوع لغة التعليم سيلاحظ أن الكثير من المعلقين ليست لديهم و لو ذرة واحدة من الغيرة على اللغة التي دون بها تاريخنا و تراثنا الديني والأدبي، ومنهم من يطالب فقط باستبدال الفرنسية بالإنجليزية في ما يشبه القفز من المقلاة إلى النار و حجتهم في ذلك أن الأخيرة هي لغة العصر بامتياز. وأصحاب هذا الطرح لا يتركون الفرصة تمر دون التلميح ضمنا أو الإقرار صراحة بأن تعريب منظومتنا التعليمية هو سبب خرابها و ليس العبث بالهوية وشلل العقول والانبهار المجاني بحضارات لم نصنعها وعدم أهلية كل من تعاقبوا على تدبير شؤون الوزارة الوصية من سياسيين وتكنوقراط وإصرارهم على الترقيع وعلى تجاهل دور اللغة الوطنية في إرساء أسس تعليم سوي ومنسجم وفي الرفع من منسوب الاعتزاز بالانتماء للأمة و الوطن.
لهذه الفئة من المجتهدين أقول: إن اللغات الأجنبية تدرس للناشئة لغاية الزيادة في الفهم و الانفتاح على عوالم أخرى و خدمة حضارتنا في نهاية المطاف بطريقة أو بأخرى و ليس بهدف ترسيخ المسخ وخدمة حضارات أخرى، وبأن اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير ووعاء لاحتواء مختلف أصناف المعارف بل هي أيضا عنوان لهوية و مرآة عاكسة لثقافة متعددة الأبعاد، أما إذا أريد لها أن تظل مجرد أصوات فلا شيء سيميزها عن مواء القطط و نباح الكلاب وصهيل الخيول و نهيق الحمير ونعيق الغربان ونقيق الضفاضع وزئير الأسود وخرخرة الفهود.
وحتى لا يساء فهمي، فأنا لا أطالب بوضع لغة شارل نوغيس في طرد بريدي و إعادة إرسالها إلى موطنها الأصلي، فهي في النهاية غنيمة حرب على حد تعبير أحد الكتاب المغاربيين البارزين. أنا أدعو فقط إلى إخراج هذه اللغة من غمدها عندما تدعو الضرورة فعلا إلى ذلك في سياق تعليمي أو علمي أو بحثي أو ثقافي و ليس لتحرير أبسط الإعلانات و اللافتات و اللوحات التعريفية و الإرشادية و عقود التوظيف و البيع و الشراء أو لمخاطبة جدتي و بواب عمارتي و حارس سيارتي و خباز حارتي.
إضافات لها علاقة وطيدة و ثابتة بما سبق:
تحليت ذات مرة بالجرأة اللازمة وسألت صاحبة الميكروفون بسوق ممتاز عن دواعي تبنيها للغة ألفونس جوان في بث الإعلانات فردت قائلة: “أنا مجرد مستخدمة ومن المفروض أن أنفذ أوامر الإدارة.”
بئس الإدارة وبئس المدير.
وفي مناسبة أخرى طلبت من مساعدة طبية أن تبرر لي استعمال “بونجوغ” في ردها على المكالمات الواردة فقالت: “هكذا علمونا بمدرسة التكوين المهني.”
بئس المدرسة وبئس المدرس.
أما بنو “بونجوغ” في صفوف المغاربة العاملين بمراكز النداء فأتفهم جيدا إكراهات عملهم و خصوصياته و أسأل الله أن يفتح لهم أبواب الرزق بقطاعات مهنية أخرى تكون أكثر انسجاما مع الطبيعة.
والآن حان الوقت لأقول لكم أعزائي القراء: شكرا على انتباهكم … و”أوغوفواغ” (بلغة أندري دوبوا، آخر حبة في عنقود المقيمين العامين الفرنسيين وأول سفير تعينه باريس بالمغرب المستقل) !!