قطاع غزة حالة سوسيولوجية فريدة تتشكل عند تقاطع عوامل الاستعمار الاستيطاني، الحروب الدورية، والحصار الممتد لأكثر من عقد ونصف. وفي ظل هذا السياق، تظهر البنية الاجتماعية الغزية قدرة لافتة على إنتاج أنماط تضامن أهلي فعالة تعوض ضعف المؤسسات الرسمية وعجزها عن أداء وظائفها الأساسية.
ونتناول هنا تحليل هذا النمط من التضامن الذي يمكن وصفه (بـالمجتمع التراحمي)، بوصفه نموذجا اجتماعيا مضادا للمنطق التعاقدي القائم على الفردانية والعقلانية المصلحية.
ننطلق من الإشكالية التالية:
كيف استطاع المجتمع الغزي الحفاظ على بنية تراحمية فعالة في ظل التحولات العالمية نحو الفردانية التعاقدية؟
الإطار النظري
- المجتمع التراحمي الجذور المفاهيمية
يُستخدم مفهوم (المجتمع التراحمي) في هذه المقال للإشارة إلى شبكة من العلاقات الاجتماعية التي تقوم على التكافل وتشارك المخاطر، وهو مفهوم يتجاوز ثنائية دوركهايم بين التضامن الآلي والعضوي. ويعتمد المجتمع التراحمي على
الروابط الأولية (العائلة الممتدة، الحارة، المخيم)،
المسؤولية الجمعية،
شبكات الإسناد غير الرسمية،
الأعراف التي تنظّم التبادل بعيداً عن المنفعة الفردية.
يمثل هذا النموذج بنية ديناميكية قادرة على العمل في ظروف الطوارئ بوصفها آلية حماية جماعية.
- المجتمع التعاقدي وصعود الفردانية
يتأسس المجتمع التعاقدي في النظرية الاجتماعية الحديثة على العقلانية الأداتية، وسيادة القانون، والتبادل المصلحي. وقد أدت العولمة الاقتصادية وتوسع قيم السوق إلى تعزيز النزعة الفردانية على حساب الروابط الجمعية.
ورغم ما يحمله هذا النموذج من جاذبية نظرية، إلا أن قابليته للتطبيق في بيئات هشة مثل غزة تبقى محدودة.
- الانبهار بالنموذج التعاقدي
تظهر دراسات اجتماعية عدّة أن قطاعات عربية واسعة تتبني خطابيا على الأقل قيم المجتمع التعاقدي باعتباره مؤشرا للتقدم. غير أن التجربة الغزية تبين أن هذا الانبهار يتراجع أمام واقع الصراع، الذي يجعل التضامن شرطا بنيويا للبقاء.
غزة نموذجا للمجتمع التراحمي
الحرب كعامل مُنتج للتراحم
تعيد الحروب المتكررة في غزة تشكيل البنية الاجتماعية عبر
تعزيز الاعتماد المتبادل بين الأسر،
إعادة توزيع الموارد وفق منطق الحاجة،
نشوء اقتصاد تضامني مواز للاقتصاد الرسمي،
بروز مبادرات شعبية تملأ فراغ الدولة.
وتظهر التجربة أن الأزمات العنيفة لا تفتت المجتمع، بل تزيد من تماسكه القيمي.
2. التنظيم الذاتي للمجتمع الأهلي
يُنتج المجتمع الغزّي آليات تنظيمية فاعلة تشمل
-لجان الإغاثة الشعبية،
-المبادرات الشبابية والنسوية،
-شبكات تقاسم المأوى والغذاء والدواء،
-بنى غير رسمية تؤدي مهام الرعاية الاجتماعية.
وتتمتع هذه الشبكات بشرعية نابعة من التاريخ الجمعي والذاكرة المشتركة.
مقارنة بين المجتمع التراحمي والمجتمع التعاقدي
البعد التحليلي
المجتمع التراحمي في غزة
المجتمع التعاقدي
أساس العلاقات
المسؤولية الجمعية والتشارك الوجداني
المنفعة الفردية
أدوات التنظيم
الأعراف، الروابط الأولية، التضامن
القانون والمؤسسات
الاستجابة للأزمات
توسع شبكات الإسناد
احتمال تفكك العلاقات
توزيع الموارد
وفق الحاجة والعدالة الاجتماعية
وفق القدرة الاقتصادية
تظهر محدودية تبني النموذج التعاقدي في غزة لاعتبارات تتصل بـ:
غياب البنية الاقتصادية الداعمة للفردانية،
استمرار التهديد الوجودي،
رسوخ الذاكرة الجماعية المرتبطة بالنكبة والتهجير،
مركزية الجماعة في حماية الفرد.
يكشف النموذج التراحمي في غزة عن قدرته على التعويض عن غياب مؤسسات الدولة الرسمية.
تشكل شبكات التضامن الأهلي بنية أساسية لبقاء المجتمع في ظروف الحصار.
يبرهن السياق الغزي على محدودية فاعلية المجتمع التعاقدي في البيئات الهشة.
يعيد النموذج التراحمي تعريف العلاقة بين الفرد والجماعة خارج النموذج الليبرالي التقليدي.
تخلص الدراسة إلى أن المجتمع التراحمي في غزة ليس مجرد بنية تراثية، بل منظومة اجتماعية مقاومة تنتج أشكالها الخاصة من الحماية والعدالة في ظل العنف البنيوي. وتظهر التجربة الغزية أن التضامن الأهلي يمثل إطارا تحليليا ضروريا لفهم قدرة المجتمعات على الصمود حين تفشل الدولة والسوق في أداء وظائفهما. وتفتح هذه النتيجة الباب أمام إعادة النظر في مركزية المجتمع التعاقدي في الفكر السوسيولوجي المعاصر، لصالح مفاهيم جديدة تعطي وزنا أكبر لديناميات الرعاية والتكافل.
قاسم صالح