مذكرات برنار ليفي:

2021-02-17 21:06:00

مشهد صيف فى طرابلس

من مصلحتنا دائما أن تُحدّد بداية الأشياء. كان هذا قبل أمس. كنت مع جيل هرتزوق؛ في القاهرة عائدين من إعداد تقرير بصحيفتي اليبيراسيون ونيويورك تايمز سانديكات. كنت قد قضيتٌ توا خمسة أيام بين الحيرة والأمل وسط هذا الحدث الهائل غير المسبوق الذي هو الثورة المصرية.

.

وعلى شاشة تلفزيون في المطار رأيت فجأةً طيّاراتٍ حربيّة في ليييا تنقض على فلول الُمتظاهرين العُزّل وترشّهم بالرصاص. من جانب كانت الطيّارات تبدو على حدود الغيم تغوص كما لو أنها ستتحطّم، وتبصق نيرانها. ومن جانب آخر وفي الاتجاه المعاكس كانت الفلول البشرية المذهولة, الراكضة في كل اتجاه المتجمّدة المبعثرة تتجمّع. وتتفرّق من جديد متابعة الركض. سقط رجل ولم ينهض. واختفت مجموعة لائذةً بالفرار في سحابة من الرماد والدّخان. وتطرح امرأةٌ نفسّها أرضاً وهي تلتفَ حول نفسها شاعرةً بالخجل العارم إذ انحسر ثوبها وتتردد في النهوض ثم تنهض مطويّة الجسّد. وتتوقّف إمرأة أخرى ملفوفة بملاءة كبيرة عن الركض: تخرج رأسها من الملاءة وتنظر نحو الأعلى ‏ تُشاهد الطيّارة، كان أحدُهم على الشرفة يُناديها ‏ لكنّها تسقط هي أيضاً ولا تنهض. شرفة أخرى تحترق، بدالي أن الناس يقفزون منها. وثمّة سيّارة تنبثق من الأرض وقد تحوّلت إلى دائرة من اللهب. بشر آخرون أيضاً. بشر بائسون، صغارٌ جدا كأهم يعرجون. هذه صورة. صورة بالتحديد. لكنّها تُشبه اللحظة ‎‏ التي أعلّمني فيها حميد كرزاي في مكتبه بكابول قبل تسع سنوات بخبر إعلان "دانييل بيرل" وقرّرتُ من دون أن أعلم السبب أن أكشف سر هذا الموت والتعلّق بقدّمي هذا الرّجُل.

وتشبه أيضاً لحظة سابقة عندما سمحت؛ قبل ثلاثين عاما في باريس آندويه مارو يطلق نداءه المؤثر لتأسيس كتيبة من المتطوعين؛ لإنقاذ بنغلادش من المجزرة ‏ بوجهه الجميل المُختلج ارتعاشا وبيده المرتجفة المتشنّجة على حنكه كما لو أنها تريد أن تسنده وتمنعه من الضياع في الديكورات، والشاب الذي كنْته يأتي طالباً على الفور موعداً وماضيا وحدّه بعد عدّة أيام إلى المغامرة على الحدود بين شِقَّي البنغال كذلك الأمر في ذلك اليوم؛ قبل أمس: حين رأيتٌ صُوّر هذا الجمع المذعور يذهب يميناً وشمالاً بين قصف طيّارات السوخوي يستولي عليهم الرّعب والعجز أمام هذا السَربٍ المتوحّش وغير المسبوق في تاريخ الاضطهاد. مُتصوراً في النهاية لأن الصوت كان قد انقطع؛ عويلٌ الناس الذين حرصوا على تغطية فرقعة الرشّاشات وعلى طرده بصراخهم، قرّرت أن أذهب إلى ليبيا لأرى، إِنّهِ القرار الفاصل.

الخميس 24 شباط/ فبراير (حين تنام الديمقراطيات)

ساركوزي يُدين. وأوروبا تُبدي أسفها. ويحتجٌ أوباما. وهذه المقالات التي تشرح لنا أن القذافي بعد كل شيء... هل هو سيء إلى هذه الدرجة, القذافي؟ ألم يُغير التطرّف ويتخلى عنه ألم يكن يُحاول أن يكون تلميذاً مُطيعاً إلى حدٌ ما للمُعسكر المعادي للإرهاب؟ أليس هو من الآن وصاعداً عُنصر استقرار المنطقة المقدس هاجس الدبلوماسيّين؟ ثم إن هذا الحديث مساءً؛ مع مصرفي إنكليزي يشرح لي أنّه يعرف سيف الإسلام, الابن البكر للقذّافي الأكثر وعياً في العائلة، الأكثر عصريّة، وأنهما تزلجا معاً على الثلج، ورقصا في علب الليل في "زيرمات" وسيكون على صداقة حميمة مع الروتشيلدات الإنكليز ‏ فهل ستُعلنون الحرب على الرجل؟ كفى! علينا أن نحطّم هذه الذبذبات في جعل ليبيا سويسرا أو نمسا الشرق الاوسط؟ تريدون إضعافه؟ هل هو حقاً شخصية يُمكن أن نعتبرها كصدّام حسين؟ غريب هذا الإزعاج. كان ينبغي أن أقول هذا الفقدان للذاكرة. وهذه الإرادة في إنقاذ إنسان ما يزال يعتقد حتى الأمس قبل ثلاث سنوات حين صرّح في قمّة الاتحاد الأوروبي. وإفريقيا في لشبونه أنه «من الطبيعي» أن يلجأ «الضُعفاء» إلى «الإرهاب».

ما تزال الصورة في عيني. كان هذا يوم السبت السابق لزيارة الدولة التي قام بها إلى باريس وقُرش له السجّاد الأحمر، ونصب خيمته البدوية في حدائق ماريني وصُراخ راماباد، وصمت برنار كوشنر المزعج. أرى القذّافي جالساً في قاعة المحاضرات وجهه مُنتفخ وعلى رأسه عباءة نسائية شكلها غريب يداه مضمومتان ليس من أجل الصلاة، بل تعبير ا عن المسافة والازدراء؛ وأرى ساركوزي من جديد خلقّه منحنياً من غير أن يلتفت نحوه الآخرٌ الأمير ويهمس في أذنه لكن بصوتٍ عالٍ يكفي لتلتقط الميكروفونات ما يقوله، شيئاً من مثل: يُسعدني أن أستقبلكم. هذا كله مؤسف. هذا كله مُعيب.

إِنّه الربيع في ليبيا وفيما وراء ليبيا، في العالم العربي. ونحن أعني الأوروبيين وخصوصاً الفرنسيين محكوم علينا ألا نفعل شيئاً. أفكر بحديثي الأخير مع ساركوزي في شهر كانون الثاني/ ينايرمن عام 2007 تماماً قبل الانتخابات: «أريد تغيير كل شيء» أريد أن أثوّر كل شيء؛ تعال الحق بي» سنصنع الثورة معا .كم أحسنتٌ بعدّم الإصغاء إليه! لَأنّ الثورة هنا. إنها الحدّث الأعظم: بعد سقوط جدار برلين في حياة أبناء جيلنا. فهو لا يتحرّك ولا يتصرف بل يجانب الثورة.. يا للعار!

الجمعة ف 25 شباط/فبراير (فيما يخص الربيع العريي)

ثمة موقفان تمكنان من هذه القضية الهائلة المتمثلة بالثورات العربية. هناك القلقون. بل لنقل المُتشائمون الذين يعرفون أن الثورات تفشل، ولا يرون سبباً لاستثناء هذه الثورة: ميدان التحرير لا خلاف المُنتفضون الشباب على صفحات التواصل الاجتاعي (الفيسبوك)» أكيد، وماذا بعدُ؟ هل تكفي زهرة انترنت واحدة لتصئع ربيعاً ديمقراطياً؟ أليست هذه الصور الأخوية لجنود على دباباتهم مع مُتمرّدين مدنيين شباب تبلّغ من السذاجة ما يجعلّها غيرٌ نزيهة؟ أوَ لسناء نحن الفرنسيين أفضل وضعاً من أي أحد، لنعرف أنه بعد فوضى اختطاف سُجناء الباستيل حل النظام محل الإرهاب الكريه؟

وهناك المتفائلون أي الثوّار الذين يرون أنْ ليس من حقنا أن تُغلق الباب في وجه شعب حين يبدو أنه يريد التحرّر، والمضي صوب نصيب أكبر من الديمقراطية والانتصار على قدّره، ونطلب منه أن يعود يوم يُقدّم كلّ ضمانات الفضيلة، وعدّم الانزلاق، والحكمة: طبعاً هناك مخاطر مجهولة بالتأكيد لكن هل يُمكِن بهذه الذريعة أن نحكم على شعبٍ بأن يرزح تحت نير الاستبداد؟ هل يُمكننا بسبب أنه قد يمرّ بخانة الإرهاب, أن نجمّد في نظامه القديم؟ ألا تقلِب الثورة الفرنسية هذا البرهان تماماً بحكم أن ما بعد الإرهاب جاءت الثورة على روبسبيير (الترميدور) وبعد ثلاثين، أربعين. مائة سنة جاء الباقي كلّه؟ أو لم نكن نحن ديمقراطيي كل بلد ضدّ هذا الشكل المنحرف من النسبية الذي يحتكر الديمقراطية لبعض الناس «الغربيين»» ويمنعها عن آخرين (شعوب الجنوب) ليعني أن استثناء عربياً سيحكم على هذه المنطقة من العالم بالاستبداد. أترجّح بين الاثنين.

ذات يوم استبد بي قلق شديد؛ إذ لاحقتني صورة رئيس حزب الوفد المصري الليبرالي الكامل من -حيث المبدأ والحديث والمواطن العالمي الخ.. وهو يشرح لي في نهاية رحلتي إلى مصر خلال حفل عشاء عند سفير فرنسا «فيليكس باغانون»» أنْ إسرائيل جرح في خاصرة كل مصريّ. فقلتٌ له «وليبيا والمعاناة الليبية التي نرى الآن» ونحن نتعشّى على هذه الطاولة أوّل أصدائها الرهيبة. أليست ليبيا جُرحاً مفتوحا؟. فردٌ قائلاً: لا“‏ أبداً» بينما لم يتوقف هاتفه المحمول الموضوع على الطاولة» بجانب صحنه عن الاهتزاز فقطع حديثه لكي يجيب مُتذمّرا ويُرتّب أشياءه الصغيرة. ولا بدا أن المكالمة تُضايقه ضرب بإصبعه على زُرّ التوّقف كما نضرب حيواناً أليفاً لتأديبه! لا أبداً! ليس أمر ليبيا ُمشابهاً أبداً. ليست ليبيا جرحاً مصرياً لأنها قضية الليبيين وحدّهم؛ ولا تخصّكم أننتم الغربيين لأنْ هذا ملف عربي عري، على العرب أن يحلّوه بصرامة فيما بينهم. ولن تذهب طبعاً إلى حدّ المقارنة بين مجزرة يرتكبها عربي ضدّ عرب آخرين بمجزرة يرتكبها مجرم بامتياز، المجرم الأمثل مادَةٌ وجوهرا الذي هو إسرائيل.

في الغد بل في اليوم نفسه في لحظة أخرى من النهار: وقد تذكرت أن المتظاهرين في ميدان التحرير أحرقوا علما إسرائيليا، وحقّروا رمز أمريكياً فجأةً قلت في نفسي وأنا أكثر اطمئنانا وخجلاً من ردّة فعلي السابقة من خوفي غير المشرف: لعلّ بعض هؤلاء الشباب يشفى في النهاية من الوساوس المشؤومة التي تسكن الأجيال السابقة. من الْمكن أن يتعايش فيها السيئ والحسّن أو الأقلّ سوءا ومن دون العودة إلى لحظات الثورة الفرنسية، لا داعي لأن يتم ربيع الشعوب بالسوء نفسه الذي تم به منذ عشرين عاماً لشعوب أوروبا الوسطى والشرقية ‏ الصَّعْبِ والُضطرب الذي اكتّسته رياح سيّئة لكنّها ولّدت في النهاية مجتمعات ليست مُرفْهة بالتأكيد، لكنها كانت طبيعية، وبالرغم  من أنه كان لها مثلنا حسابها مع الفاشية القميئة، ومع معاداة الساميّة، لم تعتقد أنها مجبرة علة تتويجها.

أنا حائرٌ ولكنني أتدرّبٍ على الاحتفاظ ببرودة أعصابي. قلق ولكني واثق أفكر في النتائج فأزنها وأعيد وزنها، محاولا أن لا أستسلِم أبداً لهذا المنحدر من التشاؤم الموجود في داخلي الذي يجعل الحكم قاتماً. أشكٌ وأحتفظ بإيماني. أبقى واضحاً من غير أن أشِتُمّ المستقبل. لا أنخدع بشيء، وخصوصا أن ليس لديّ أوهام خيالية ‏ لكني لا أحتجب أبداً في وضعية أمكر الماكرين، الذي يرى قبل الناس جميعا قُدوم الغد الحتميّ الذي سيجعله يُقلع عن غروره. يقال في لّغة الفلسفة: الاشتغال على الروح، ليس جديا ولكنه متعاقب..

السبت  26 شباط/ فبراير (كيف دخل القذافي حياتي)

حدث هذا في الحال. بصورة طبيعية. حصل بطريقة غير واضحة ثم بطريقة أوضح. ثم بطريقة ضبابية، في البداية قيلت جملة فضفاضة مُلتبسة اتخذت بالتدريج شكلا كلمة كلمة وتقريبا مقطعا مقطعا،كحبر خفي في شّعلة ذاكرة مُبهُمة: لم ننتظر برنار هنري ليفي لنختلق عهد الله). ثم هو ذاو وجه متيقظ ورائع، خصلة شعر صهبا، وقبعة ذهبية من فترة ما قبل المرض، قبعة صديقي "بول جيليير" الذي كلّفه افيليب تيسون برئاسة تحرير جريدة أسبوعية منسيّة اليوم؛ وما عُدتُ أنا نفسي أفكر فيها منذ عدة سنوات اسمها الأخبار الأدبية. ثمّة إذآً تاريخ هو عام 1979: لم أرَها في ذلك التاريخ» فاعتزلتها أجل اعتزلتُها في حال نصف نائمة دائماً في حالة الأحلام اليقظة حيث يبدو لي أنها كانت تستوقفني طويلاً، وسأعيد تكوينها لأن هذه السنة؛ سنة 1979 شهدت صدور كتابي عهد الله. ثم إنَّ الأغرب الشبيه بنوع من الرّعد في الضباب الذي يغلفني أنا دوماً نصف نائم لكنّ هذا الدالٌ ينهال عل بحرفيته: اسم علّم آخرء هو اسم مؤلّف الجملة أراه بأمّ عيني هذه المرّة بحروفٍ عريضة ينبثق في أعلى واحدةٍ من هذه الصفحات التي كانت سمّة الأخبار الأدبية. صَعُب علي تصديق ذلك؛ غير أني أراه أقول لنفسي: هذا مستحيل إِنها مزحة شيطان طَبْعه خبيث يُرسل لي هذا الحلّم ذي القرنين وأقول لنفسي أيضاً هذا نمط الذكرى الزائفة أونمّط الذكرى الشاشة الذي يتكوّن مع الزمن أو ينبثق لسبب لا يعلمه إلا الله وإن لم يكن الله فعلى الأقلّ اللاوعي غيرأن هذا يؤدّي إلى النتيجة نفسها ولا أعتقد بها أكثر، ولكنّ الأمر هو هذا مع ذلك؛ فالوضوح حاضر هنا ليس وضوح اسمه فقط بل وجهه أيضاء وبالتالي فمؤلّف هذه الجملة غير الُمحتِمّل والذي انزلق اسمه من أبواب ذاكرتي المفتوحة وملامحه التي فرضت نفسها علي وأنا في يقظتي نصف واع إِنّه...القذافي» العقيد القذّافي الذي سيعرف. في طرابلس خلال مُقابلة في خيمته لماذا اعتقد أنَّ من الُمستحسن أن يقول من خلال أُوّل أسبوعية ثقافية فرنسية في تلك الفترة» إِنّه لم ينتظر برنار هنري ليفي كي... الخ. لكنْ كيف؟ وفي أيّ سياق حصل هذا؟

لاحقتني هذه الذكرى طيلة اليوم. إذ لم تتوقف الجملة عن التجوال في رأسي. حتى ذهبتٌ إلى المكتبة الوطنية ساعيا بهدف إراحة بالي إلى العثور على مجموعة هذه الجريدة الرائعة المختفيّة. وهنا كانت المعجزة! فها أنا أعثر على الجملة! أنا لا أحلم بذلك؛ بل أعثر عليها!

كانت فعلاً في جريدة الأخبار الأدبية. لم يكن مُديرها بول جيلبير؛ ىما كنت أعتقد بل «جان فرانسوا كان». أعثر على الجملة في عدد 29 تشرين الثاني/ نوفمير عام 1979» داخل ملف بعنوان «انتفاضة الإسلام الكبرى» كناية عن الثورة الإسلامية في طهران. يبدأ هذا الملفٌ بافتتاحية «كان الحذرة» التي تتجنَّب أن تُدين العملية الجارية في إيران تتبعها مقالة ل "مكسيم رودانسونك" وأخرى ل«بول بلطة» عنواهها «الُميني والأخلاق؛؛ ثم «ملحمة إسلامية» يحكيها واحد اسمه «روجيه غارودي» حيث كان ما يزال يُعاشّر؛ ثم نص ل«هنري كوربان» يتلوه تكريم المثقف الإيراني الكبير «درويش شيغان» لكوربان؟ ثم تقرير صحفي من إعداد «جيل آنكوتيل» عنوانه: "يا إيران اكتشفت شعباً تؤلمه ذاكرته». وهنا وأنا محصور بين هذه النصوص. في جوار مجموع نصوص عن "اميشليه" مع بحثٍ ل"جان ‏ لوي ايزين" واجيروم غارسان» حول "هل‏ الجوائز الأدبية مُزيّفة؟" مع مقالة لأرسان نفسه عن جائزة ميديشي لعام 1979 الممنوحة لكلود ذوران، أقع على الشيء الذي أبحث عنه: ثمة على الصفحة اليُمنى" في أعلاها بتوقيع شخص اسمه «جان مارابيني»؛ ورقة بعنوان "في ليبيا القذّافي رحلةٌ في جماهيرية شعبية إسلامية" وخُصّصه لمن كان آنذاك القائد الشاب للثورة الليبية. ليس هذا حواراً معه بل هو تقريرٌ عنه. وثمّة في أثناء التقرير شواهد بين هلالين منها شاهدٌ ‏ وهنا تحديدا وتقريباً بالكلمة أتذكّر منه: "لم ننتظر برنار ‏هنري ليفي لنبتدع الديانة التوحيدية"...

ما الذي أمكن أن يحدث في ذلك اليوم؟ ما المُصادفات والتأثيرات التي تلاقت ومكنت اسمي من أن يدخل في دماغ هذا الرَّجُل وينبثق منه بهذه الطريقة؟ علمتٌ من بحثٍ بسيط أن مارابيني مؤلّف سلسلة من كتُّب التاريخ التي نفدّت جميعها باستثناء كتابي يوميّات في روسيا في عهد ثورة أكتوبر؛ ويوميات في برلين في عهد هتلر. لا أجد في أي مكان سيرته الذاتية غير أني وقد تأكٌدتٌ من أنْ اليوميات في روسيا صدرت سنة 1965 قلت لنفسي رُبما مات وإلا فقد اختفى نهائياً. وفرانسوا كان الذي أكالمه؛ لم يترك من ذكرى ((أرى بغموض...بغموض شديد...شديد جداً.. .كنت أستخدم كتاباً مأجورين على الصفحة...حتى لقد كان لدينا يساري مُتطرّف نستعين به عند الحاجة...احذر من هو؟ دونيس كيسلر...الباترون دونيس كيسلر مُعاون البارون سيليير حين كان هذا يُدير هيئة آرباب العمل في فرنسا...؟ وانطلق من قهقهاتٍ مُفاجئة صماء قليلاً لأنه وهو يعطي دوماً الشعور بأنه لا يتوجّه إلا إليه يُضيف قبل أن يُغلِق الخط وبصورة مُفاجئة أيضاًء ومن دون أن يقول إلى اللقاء؛ مثلما فعل دوماً: "إذا عرفت شيئاً جديداً عن هذا المارابيني سأخبرك؛".. نتحدّث عن سنة 1979 حيث لم يكن هناك انترنت ولا فاكس. ولا سبب منطقياً أن يقع كتابي عن الإنجيل أو اليهودية أو الديانة التوحيدية بين يدَيّ القائد البدَوي ولا أن يخطر في باله. ومع ذلك هذا ما حصل. قبل اثنين وثلاثين عاماً من أن يُصبح مجنوناً خطيراً يُرسل الطيارات الحربية ضدّ شعبه الأعزل قبل اثنين وثلاثين عاماً من أن يصير العدو رقم 1 لكل ما تعدّه البشرية من ديمقراطيين، اثنين وثلاثين عاماً قبل أن يظهر لي عرّضيَا أنّه تجسيد لما قضيتٌ حياتي في إدانته ومحاربته العقيد القذّافي هو هذا القارئ الذي لا يراه وعيُّ الشخص الذي هو أنا إذ لم يتركني أقول إنّني علّمتّه معنى الديانة التوحيدية.

الحقٌ أن هذه الفكرة بعد أن انقضى الذهول الأوّل أشعرتني بالامتعاض على نحو غريب. فقد كان يملك موهبة أن يُثير غضبي بِدّل أن أتسلى بدل أن أبدو واحداً من ملامح المزاج التي يشكل اللاوعي أفضل مؤْلّفٍ لها، بعيداً عن أجعل نفسي أنبهر بالدُرّر التي تُمرّرها الذاكرات البعيدة حين تُلِحّ عليها قليلا كأنني أكتشف بيني وبين هذا الرَّجل نزاعاً غامضاً وقديراً. أو أنني؛ وهذا هو الأدهى؛ كنت أتنبّه لتواطؤ لا يُشرّح "غير إرادي" استغنيتٌ عنه تماماً. قرّرتٌ في النهاية أن أرى في هذا الانبثاق تحذيراً بعيداً يكف عن الاستيلاء عليّ.

الاثنين 28 شباط/فبراير (غداً في بنغازي)

أنا مُسافر غداً إلى ليبيا. أتى القرار فوري هذا الصباح. رُبّا ترك في تقريري عن مصر ذكرى من عدّم الإنجاز. كلّ هذه المقالات في كل مكانٍ تقريبأ التي تُرَكّز على امتعاض المثقَفِينَ الفرنسيين من الربيع العربي، والتي تُزعجني. هذا الصديق القديم؛ المرتبط بالأجهزة الأمنية يقول لي إن دخول ليبيا سيكون بالغ الصعوبة لإنسانٍ مثلي فليبيا غابة لم يعد أحدٌ يُسيطر فيها على شيء. وهذا يُحيرني. في الغد في اطراد إصراري مع مرور الأيام وكنًا نشهد حدثاً تكوينيا موجته طويلة وبعيدة المدى وهذا الشيطان الذي أعرفه جيداً ليس شيطان الُطلّق بل شيطان النسبيٌ أي شيطان الحدّث الذي جعلني كأنني أجري وراء كأس مُقدّسة علمانية. أو صورة الفلول المرميّة بالرصاص من الجو التي لا تُفارقني وأنا أؤكّد أول إحصاءات القتلى وبعض تقارير

المُراسلين النادرة كتقارير القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي التي استطاعت دخول ليبيا: 640 قتيلاً بحسب الفيدرالية الدولية لجمعيات حقوق الإنسان و2000 في بنغازي وحدها بحسب إحصاءات أخرى حيث يقول طبيب فرنسي عاد من هناك أمس مساء: إنها مذبحة؛ وصولاً إلى سيف الإسلام ابن القذّافي الذي يُقلّل من فداحة المذبحة مع أنه يتحدّث عن مئات الجثث...

تحدّثت بالهاتف مع «ألكسي ديكلو». أخي الصغير الُمصوّر الذي ضمن لي التقارير دائما (آخر أخبار الطفولة...الأنتيب...ذكريات نساء جميلات.. على شواطئ مُشّمسة...أجسادهنٌ الملتهبة...ضحكاتهنٌ المنعشة...) لكنّه محجوز على الحدود الليبية وللأسف؛ ليس من الجانب الآمن بل من الجانب التونسي الذي لا يُعبر. ثم مارك روسيل الذي لا أعرفه جيداً لكنّي أَحِبَ عمله، وذهبتٌ معه إلى أفغانستان، بعد موت اللواء مسعود, في المهمّة التي كلفني بها شيراك وجوسبان. كان روسيل حُرَا. ثم جيل طبعا،ء إذ كيف سأقوم برحلةٍ كهذه من دون جيل؟ أما "فرانك فافري" فهو الذي سوف يضمن حايتنا. بينما سيضع صديقي فابريس آلكو خطة رحلة جوية إلى مرسى مطروح بين الإسكندرية والحدود ‏ وهكذا سنوفّر الوقت.

أخذتٌ جريدة نيويورك تايمز سانديكات وجريدة الأحد وصحُفي المعتادة (الرسالة الإيطالية والبابئيس في مدريد والاكسبرس والآفتن بوستن الاسكندينافية. أَقرّر السفر غداً. لا أعرف شيا عن هذا البلد. أجهلٌ كلّ ما سوف أَجِدٌ فيه. حتى إنني لا أملك الوقت لأجمع عنه ملفا. لكن قراري قد حُسم.

يتواصل

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122