ما إن تم الإعلان عن وفاة المغفور له بإذن الله أحمدُ ولد عبد العزيز وقبل أن تجف دموع الجميع حتى سادت حالة من التضامن ووحدة المشاعر وانفتاح المعارضة على السلطة يمكن مقارنتها من وجوه عديدة بانفتاح الاتحاد السوفييتي على الغرب بعد حادثة تشيرنوبيل.
.
ولعل أكثر هذه المشاعر تعبيرا تلك التي عبرت عنها بعض قوى المعارضة السياسية التي كانت حاضرة بقوة في مجالس العزاء وهذا ما يشكر لها بالفعل لكن البعض منها زاد على عملية المواساة والتعبير عن المشاعر الطيبة تجاه أسرة الرئيس بمحاولة استغلال ظروف الحداد على روح الفقيد لإخراج الحوار من عنق الزجاجة وهو ما يعرف في لغة السياسة بدبلوماسية الكوارث هذا الأمر ليس سيئا في حد ذاته وإن لزم التنويه إلى أن الإنسان يتخذ أحيانا بعض القرارات في حالات نفسية قصوى وتحت ضغط المشاعر سرعان ما يتخلى عنها بعد زوال المؤثرات التي أدت إليها فهل هذه النوايا الحسنة من ذلك النوع أم أنها نوايا حقيقية بالفعل ؟ ذلك هو ما ستبينه الأيام المقبلة .
في هذا الإطار تندرج بعض التصريحات المنسوبة للرئيس الدوري للمنتدى الأستاذ أحمد سالم ولد بوحبين طالب فيها أطراف العملية السياسية في البلد بضرورة التنازل عن بعض المواقف لإطلاق الحوار.
والحقيقة أن هذه "المبادرة" ليست الأولى من نوعها فقد سبقتها مبادرة أخرى أطلقها رئيس المنتدى نفسه عند تسلمه لمهام الرئاسة الدورية للمنتظم السياسي المذكور. وقد قادت تصريحات الرئيس ولد بوحبيني الأولى إلى عودة اللقاءات بين الجانبين بعد مقاطعة المنتدى لجلسات التشاور في السابع من شهر اكتوبر الماضي.
على كل حال نأمل الآن أن يكون للتصريحات الحالية صداها وأن تحرر الجميع أغلبية ومعارضة من الضغط النفسي وأن تؤدي على وجه الخصوص إلى خفض سقف المطالب لدى المنتدى فديمقراطيتنا لا تزال في سن المراهقة لحداثتها والمطالبة فيها بالمستحيل مستحيل في حد ذاته وكلنا نعلم أن الديمقراطية الناقصة أفضل من الاستبداد ، وأن الاستبداد أفضل من الفوضى والحرب الأهلية.
ومع ذلك فإنني على يقين من أن أفكار الرئيس ولد بوحبين ليست محل إجماع لدى المعارضة كما أن ما سأعبر عنه من آراء فيما يلي ليس محل إجماع لدى الأغلبية لكنها تنتمي كلها إلى ذلك الحيز المشترك الذي من شأنه أن يوصلنا جميعا إلى بر الأمان...
لكن يجب ألا ننخدع فهذا الأمر لن يغير في حقيقة انتماء الرجل إلى المعارضة وعمله على تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه من مكاسب سياسية ومعنوية لها كما أنه لن يغير حقيقة انتماء كاتب هذه السطور إلى الأغلبية الداعمة لرئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز : فلا أحد في الأغلبية يريد زوال المعارضة إذا كان ديمقراطيا حقا ، ولا أحد في المعارضة يريد زوال نظام انتخب بطريقة ديمقراطية إذا كان منصفا.
والحقيقة أن الادعاء بأن الأغلبية الحاكمة عاجزة عن الاختلاف وغير قادرة على الرد بالمثل على المنتدى وتقديم غصن الزيتون له غير صحيح فشجرة الزيتون أصلها ثابت عندنا ومع ذلك فأنا هنا لا أتحدث باسم الأغلبية ولست مخولا للقيام بذلك مع أنني جزء منها.
ومن أجل إعطاء معنى لـ "التنازلات" المشتركة التي دعا إليها رئيس المنتدى ولد بو حبين فإنني أكتب هذا المقال لتوضيح طبيعة التنازلات المطلوبة من كل طرف قبل الدخول في الحوار .
فإذا كان الرئيس ولد بوحبين صادقا فيما يقول – وأظنه كذلك – فلا بد أن يكون التنازل الأول من طرف المنتدى هو التخلي عن التقوقع وتصلب المواقف وخصوصا الرد المكتوب الذي هو بحسب الكثير من المراقبين شرط موغل في الشكلية ولا يرى فيه البعض سوى الإصرار على إحراج السلطة الحاكمة ولا شيء غير ذلك وهذا الأمر لا يمكن أن يكون هدفا سياسيا في حد ذاته.
وفي تقديرنا أنه ما لم يتم التخلي عن هذا الشرط الشكلي التعجيزي وهو الرد المكتوب فلن يكون للحديث عن تنازلات من جانب المعارضة أي معنى وهو ما سيعيدنا حتما إلى المربع الأول.
إذا كان ذلك كذلك يمكننا الآن اقتراح آلية للحوار مكونة من ثلاث مراحل على النحو التالي :
1- مرحلة أولى يتم التوقيع فيها على مذكرة تفاهم تتضمن إجراءات بناء الثقة بين المعارضة (المنتدى والمعاهدة ومنظمات المجتمع المدني التابعة لهما) والسلطة (أحزاب الأغلبية وهيئات المجتمع المدني التابعة لها ) خلال مرحلة زمنية لا تتجاوز ثلاثة أشهر يتم خلالها :
- الامتناع عن القيام بأية خطوات تصعيدية في فترة الانتظار المذكورة بما في ذلك وقف الحملات الدعائية المعادية لدى الطرفين ووقف المسيرات المناوئة للنظام والتخلي عن نظرية المؤامرة والتخوين المتبادل ...إلخ.
- تهذيب اللغة السياسية والامتناع عن استخدام عبارات تؤدي إلى توتير الأجواء (على سبيل المثال استبدال عبارات مثل "الأزمة السياسية" و"التسيير الأحادي" بعبارات أخرى مثل "الخلاف بين السلطة والمعارضة" ، وإشراك المعارضة في تسيير الشأن العام...إلخ)
- الامتناع عن ترخيص أي حزب سياسي جديد إلى حين الانتهاء من الحوار والانتخابات
- تنظيم حوارات هادئة وهادفة في وسائل الإعلام الرسمية بحصص متساوية بين السلطة والمعارضة تشارك فيها شخصيات ممثلة للطرفين يتم فيها طرح القضايا الوطنية بهدوء ومسؤولية وبعقلية البحث عن الحلول بعيدا عن التشنج والإثارة .
- مأسسة الترويكا (الأغلبية والمنتدى والمعاهدة) مع إمكانية إضافة قطب رابع تشكله النقابات ومنظمات المجتمع المدني عندما تعلن استقلالها عن الكتل الحزبية، والعمل على تحويل الترويكا إلى كتل سياسية حقيقية تأخذ شكل أحزاب سياسية كبيرة ذات مصداقية لها أنظمة داخلية خاصة بكل واحدة منها وبرامج سياسية واضحة المعالم بشكل يجعلها قادرة على المنافسة ويوفر الشرط الضروري للممارسة الديمقراطية التعددية وهو وجود أحزاب سياسية حقيقية.
- أن يكون التمثيل داخل البرلمان مقصورا على الكتل السياسية المعترف بها على غرار ما هو موجود حاليا : كتلة أحزاب المنتدى وكتلة أحزاب الأغلبية وكتلة أحزاب المعاهدة مع إمكانية إضافة كتلة سياسية رابعة عند الاقتضاء ، هذا الأمر سيضمن الحياة والاستمرارية للأحزاب السياسية و يضمن من جهة أخرى حصول التوازن المنشود داخل قبة البرلمان بين مختلف القوى السياسية في البلد . ونشير هنا إلى ضرورة تطبيق قانون الترحال السياسي على الأحزاب التي تخالف كتلها السياسية وتغير انتماءها في الفترة الفاصلة ما بين المأموريات الانتخابية.
ولا بد من الإشارة أيضا إلى حاجة تلك الأحزاب السياسية الكبيرة إلى إعادة تنظيم هياكلها الداخلية والانتظام في شكل أحزاب سياسية كبيرة لها رؤساؤها المنتخبون وهيئاتها التنفيذية المكونة من رؤساء الأحزاب المشكلة للكتلة ومجالسها الوطنية المكونة من النواب والنواب السابقين والشخصيات الوازنة هذا بالنسبة لكتلتي أحزاب المنتدى والمعاهدة بالنظر إلى أن البعض منها غير ممثل في البرلمان بسبب مقاطعته للانتخابات التشريعية والبلدية الأخيرة . أما بالنسبة لكتلة أحزاب الأغلبية فيصار إلى تشكيل مكتب تنفيذي مكون من رؤساء الأحزاب الممثلة في البرلمان ومكتب وطني من رؤساء الأحزاب غير الممثلة في البرلمان.
- تشكيل حكومة أغلبية مكونة من شخصيات تكون مقبولة لدى الرأي العام الوطني يتم في ظلها الحوار وتشرف على الانتخابات ولا مانع من أن تتضمن بعض الوجوه من الحكومة الحالية.
- منح تمثيل ملائم للشباب والنساء في الهيئات التنفيذية للأحزاب فلا يعقل ألا يكون للشباب تمثيل معقول في مجتمع فتي . فلا بد أن يكون للشباب والنساء تمثيل مقبول في المجالس النيابية والتشريعية لذلك اقترح تخصيص نسبة 20 % من كل كتلة حزبية للشباب و20 % للنساء.
- يمكن في هذه الفترة للحكومة أن تقوم ببعض الإجراءات الإضافية لدعم القدرة الشرائية للمواطن منها على سبيل المثال تحويل مشروع دكاكين أمل إلى هيئة وطنية دائمة ذات طابع اجتماعي وترسيم العاملين بها ، أو تكوين صندوق برأسمالها موجه لدعم الزراعة المطرية وزراعة الخضروات لتحقيق الأمن الغذائي وتخصيص دعم إضافي لأسعار المحروقات ...إلخ.
- إصدار عفو رئاسي عن سجناء إيرا مع تعهدهم بعدم المساس بالوحدة الوطنية وتهديد الأمن العام للبلد
بعد الانتهاء من مرحلة إجراءات بناء الثقة يتم الشروع فعلا في المرحلة الأولى من الحوار وهي الحوار التمهيدي.
2- مرحلة الحوار التمهيدي : يتم فيها التوافق على موضوعات الحوار الشامل وذلك باقتراح كل كتلة حزبية لرزمة من الموضوعات لا تقل عن 10 لإدراجها في مسودة موضوعات الحوار التي يتم الاتفاق عليها بإشراك كتلة رابعة للنقابات والمجتمع المدني.
في هذه المرحلة يتم الاتفاق على الجدول الزمني للحوار وشكله وعدد الممثلين لكل كتلة حزبية.
3- مرحلة الحوار الشامل : يتم الشروع فيها مباشرة بعد الانتهاء من مرحلة الحوار التمهيدي والاتفاق النهائي على موضوعات الحوار ويتم تمثيل كل كتلة فيه بعدد متساو من الممثلين .
جميع الموضوعات المتفق عليها يجب أن توضع على مائدة الحوار الشامل ويتم بحثها بشكل صريح بين الفرقاء وأذكر هنا بما قاله رئيس الجمهورية في نواذيبو بأن "الفرقاء عندما يلتقون فلا بد أن يتوصلوا إلى حل" وحتمية التوصل إلى حل المشار إليها في العبارة السابقة تقتضي اللقاء والتشاور والحوار حول كبريات القضايا وطبيعي أن الحلول لا تأتي من تلقاء نفسها كما أنه ليس من المقبول أن يحل أحد الطرفين محل الآخر فلا بد للحوار من طرفين يجلسان معا على طاولة المفاوضات بصدور مفتوحة وبحس وطني ومسؤولية كبيرة وتحكيم لقاعدة لا غالب ولا مغلوب.