لم يستطِع شعرَاء الشنَاقطَة أن يزجروا قرائحهم عن البوحِ برؤيتهم لوجه النَّبي صلى اللـه عليه وسلَّم في المنَام، وَلم يستطيعوا أن يكتموا ذلكَ الجمَال في صدورهم، ولا أن يمسكوا الفرح بذَلكَ الوجه الشريف في قلوبهم.
فقد قالَ العلامَة مولود بن أحمَد بن الجوَاد، ويا سعدَه وسعدَ أبيهِ:
للـهِ إغفَــــاءة أغفيتها سحرا
لقيت من يمنها المختار من مضرا
لقيتهم فجرَى بيني وبينَهمُ
ما كنت قبلُ أرجِّي أن يكون جرَى
وقد قالَ العلامَة الشيخ محمَّد المَامي وللـه ما أطيبَ ليلته وأعظمَ سعده:
مبيتي لدى هضب النعام ومرْقَدي
ولو بت ملقى للندى وموسّدي
رأيت قبيل الفجرِ وجهَ محَمَّدٍ
وما بَاحَ لي مَا قد رأَيتُ من الغَدِ
وقد قالَ الشيخ الخليل النحوي - وهوَ الذي اتخذَ الصمتَ شعاراً والكتمَ دثاراً -، حينَ لم يستطع ألا يبوحَ بمكنونِ تلكَ الليلة التي رأَى فيها وجهَ الحبيب صلى اللـه عليه وسلم قبلَ دهرٍ طويل، فقالَ:
أحقَّا رأَى وجهَ الحبيبِ غريبُ
فأسعدَه أنَّ الحَبيبَ قريبُ
وعيَّ لسانِي بالتكَلُّم عندمَا
تكلَّم - يا بشرَى الغريبِ - حَبيبُ
أحقاً تلقَّاني الحَبيبُ مبشراً
لئنْ كانَ هذا إنه لعَجيبُ
فليتَ لقاءً في الكرَى كانَ يقظةً
وليتَ حبيباً غابَ ليسَ يغيبُ
وقد حدَّثني الشيخ اليدالي بن الدين - ويَا سعده وسعدَ طالعهِ وسعدَ أهله - أنه باتَ ليلةً بعدَ حادثِ سيرٍ شديدٍ قربَ معطَى مولانا ما رأَى ليلةً أشد منها عليه، حتَّى انجلت تلكَ الشدَّة برؤيته وجهَ الحبيب صلى اللـه عليه وسلَّم فكانتْ أسعدَ ليَاليه، فجعلَ يرتجلُ وهوَ يشاهدُ ذلكَ الجمَالَ:
تراءى من حبيبي لي مُحيّا
أهيم بحُبّه ما دمت حيَّا
تراءى لي ولست لذاك أهلاً
وما كانَ المكانُ له مُهيَّا
تراءى لي فأنساني همومِي
وآلامي بعطفته علىَّ
وكنت عهدت منه العطف قِدْماً
فكنت به ولم أكُ قبل شيَّا…
وقد أصبحتُ صبيحَة اليومِ على وجهه الشَّريفِ صلى اللـه عليه وسلَّم، فما اسطعتُ أن أكبحَ شعراً ولا شعوراً، فجعلتُ أنشدُ بينَ يديه - ويَا سعدَ أبي -:
تبدَّى اليومَ وجهُ المصطَفَى لِي
جمالاً في جلالٍ في كمَالِ
فيا سعدِي ويا طوبَى لقلبِي
به.. يا حبَّذا طِيبُ الوصَال
فشملِي اليومَ بالمخَتارِ دانٍ
وحَالِي اليومَ بالمختَار حَالِ
أرَى وجهَ الحبيبِ وقد بدَا لي
فما أدرِي يمينِي من شِمَالِي
أصافحُه، أقبِّلهُ، وأُسْقَى
بنورِ سَناهُ في حَلَكِ الليالِي
وأشكو للحَبيب ظَلامَ نفسِي
فحَالي فيهِ يُغنِي عن سُؤَالي
أذوبُ محبةً فيهِ وقِدْماً
شددتُ إلى محَبَّتهِ رحَالي
فلا زَالت محبتهُ شبَابي
وشيبِي واكتحَالي واكتهَالِي
ففي وجهِ الحَبيبِ دوَاءُ قلبِي
وفي وجهِ الحَبيب صلاحُ حَالِي
صلاةُ اللـه دائمةٌ عَليهِ
دوامَ سنَاهُ في فَلكِ الجمَالِ
فاللهمَّ أرنَا وجه نبيكَ صلى اللـه عليه وسلَّم في كل حال، اللهمَّ اغمرنا بنوره، واجعل قلوبنَا مشاهدةً لهُ، ذائبةً في محبته، غارقةً في شهودِ جمَاله، وامنن علينَا يا ربَّ محمد صلى اللـه عَليه وسلمَ بدوام وصاله.
فما أعذبَ نوالَه وما أطيبَ وصاله!
عبد الرحمن النحوي