لعل الحاجة إلى البقرة من المطالب المتجددة في حياتنا، كمجتمع رعوي تواضع على هجرته الموسمية إلى القرى في فصل الخريف، ومن هنا كانت الحاجة ماسة لألبان الأغنام، والإبل، والأبقار، وتتجدد الحاجة إلى الاعتماد على كوب من اللبن في الاعاشة اليومية في فصل الخريف أكثر من أي فصل آخر، ولذلك، تسارع الأغلبية زرافات، وافرادا إلى الرجوع لقراهم، ومدنهم المهجورة طيلة فصول السنة، وذلك لامتلاك البقرة الحلوب في بداية كل فصل خريف …!
فهل ذلك من دواعي التنويع في المطالب المعيشية، أو الميول الجامحة لاستعادة حياة البداوة نظرا لصعوبة نمط المعيشة في الحضر، حيث يعاني المجتمع الاستهلاكي من الأغتراب على مستوى الفرد، والأسرة، الأمر الذي يبرر - ربما - الهروب المؤقت إلى مناظر الطبيعة العامة في فصل الخريف، و"التكيف" النفسي، والاجتماعي، مع الكفاف في المعيشة، كما الأسلاف الذين كانوا يعتمدون على الألبان، واللحوم، ويقضي الواحد " شهرا دون ان يرى كسرة خبز، إلا أن يأتيه بها مسافر مارا عليه" - على رأي ابن حوقل -..!
وفي نهاية موسم الخريف، تشاهد منسوب حركة النقل التجاري ، والخاص، نحو المدن، حيث يكون الرجوع مرغوبا، وكأن المجتمع استرجع راحته العامة، واستعاد مداميك دورة الحياة من مناظر الخريف، وذلك ليحتمل السغب في المدينة، وتنميطها للمجتمع طيلة فصول السنة الثلاثة، وكأن المجمتع في حالة كبت لميوله الأولى نحو نمط الحياة في البادية، نظرا لعدم وجود بديل ينعش الوجدان، وينمي الوعي، ويشكل القيم الثقافية، والأخلاقية، والسكينة في غمرة البيئة الحضرية.. !
ولعل في ذلك راحة من أعباء الحياة اليومية، كما الراحة للبقرة حين يجف ضرعها، ويتوقف عن حلبها المستغلون..!
لأن كلا منهما سئم من استدرار المنتفعين، وقد نال من جهدهما، وحياتهما، هذا الاستغلال البشع المفروض في سنن الاجتماع الجائرة في حق الفرد، والأسرة، والمجتمع …!
فهل هناك علاقة مشتركة بين صبر البقرة الحلوب ، وبين صبر مجتمعنا الحضري على الحيف الذي استنزف طاقاته البشرية، والأقتصادية من طرف أنظمة الحكم: من الرؤساء، وأعوانهم، والأقربين، والأبعدين منهم منزلة، وأداء وظيفيا، وهذا الاستغلال، بلغ بالمجتمع منتهى التحمل، كما لو انه بقرة جف ضرعها ..؟!
وقد أخذ الاستغلال العام ألوانا من التعذيب النفسي، والتجويع الجسدي خلال تدوير الرؤساء، والوزراء، والولاة، وهو التدوير الذي كان محكوما بالسلوك النهم الذي لا يقنعه افتراسه المتوحش طالما عشب الخريف يخضر، ولو في السنة مرة واحدة ..!!
وهذا ديدن نظام الحكم في بلادنا طيلة حياة جيلين كاملين في الستين سنة الماضية..!
ولكن لماذا لم يختبر المجتمع حدود التحمل في مشاعره، وميوله، وتوجهاته التي تترجم السأم الذي يعبر عنه بالقلق، وتارة بالتشاؤم، واليأس، ولما تجاوز بعد الرفض السلبي الذي يتحسس مواجعه، والعجز عن دواء قروحه الغائرة في الجسم الاجتماعي، ومن هنا غابت مظاهر التفاؤل التي صاحبت الصبر الأيوبي، الموريتاني بما تواضع عليه المجتمع من شغف العيش الذي بلغ حدوده الدنيا للتوكؤ عليه في الصحة الجسمية للفرد في متوسط عمره، والمجتمع في هشاشته، ومغالبته للحياء في الأسرة نظرا لسوء الأحوال المزمنة، ومن هنا تتأكد المقولة: إن دوام الحال من المحال، وليس من دافع، يمنع من التمرد العام، والأحتجاج، وتحديد المطالب، وأولوية الحقوق المستحقة التي لا تعطى، وإنما تنتزع بأساليب، قد تتوقف في البداية عند المحطة الأولى على عتبة الخيارات العامة الناعة، قبيل الخشن من السلوك الذي، يعكس اليأس في مراحله الأولى ، والمجتمع في هذه الظروف، ربما يستغله الأتنفاعيون الذين اعتقدوا في أنفسهم من المؤهلات التي تمكنهم من توظيف الرأي العام، وتوجيهه في مواجهة نظام الحكم الذي تواضع على انتقاء " الوسطاء" من النخب المتعلمة الذين يجيدون مهنة "حلب" المجتمع على غرار حلابي البقرة الحلوب..!
والسؤال الذي يطرحه المراقبون للشأن العام في مجتمعنا، هو: متى، وكيف، سيصل الترحال بالمجتمع بين المدينة والبادية إلى المحطة الثانية، المرحلة التي يتمنع على حلابيه من " الوسطاء" ؟!