بين التوسع ومجابهة العزلة والبحث عن كسب الحلفاء، تندرج سياسة الاحتلال الإسرائيلي تجاه القارة الأفريقية، فعلى مدى عقود من الزمن ركزت إسرائيل على اختراق السنغال وأقامت معها علاقات دبلوماسية، لكن تلك العلاقات ظلت متأثرة بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، فتأرجحت بين الحضور والقطيعة والفتور.
ووافق الجانبان عام 1960على إقامة علاقات رسمية بينهما، وقام الرئيس السنغالي الأول ليوبولد سيدار سنغور بزيارة إلى تل أبيب عام 1971، لكن حبل الود انقطع عام 1973 تضامنا مع العرب بعد حربهم هذا العام مع إسرائيل.
وبعد توقيع اتفاقيتي كامب ديفيد 1979وأوسلو 1993 وموجة التطبيع العربي، أعادت دكار علاقاتها مع إسرائيل عام 1995.
وعام 2016 سحبت إسرائيل سفيرها بول هيرشسون من السنغال بعد ما تقدمت الأخيرة بمشروع القرار رقم 2334 لدى مجلس الأمن الدولي، والذي يدين الاستيطان داخل الأراضي الفلسطينية، وهو المشروع الذي صوتت لصالحه 14 دولة وامتنعت الولايات المتحدة عن التصويت عليه.
لكن بعد الجولة الأفريقية التي قام بها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى دول حوض النيل عام 2016 ومشاركته في قمة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) الـ51 عام 2017 في ليبيريا، واجتماعه مع الرئيس السنغالي وقتها ماكي سال تم استئناف العلاقات من جديد.
وفي سابقة من نوعها، بعث سال وزير خارجيته سيدكي كابا لزيارة إسرائيل في مارس/آذار 2018 لتمتين العلاقات بين الطرفين، وزار خلالها القدس المحتلة وهو الأمر الذي نددت به السلطة الفلسطينية وتسبب في مظاهرات استنكارية في مختلف المدن السنغالية.
وكانت زيارة سيديكي أول زيارة يقوم بها مسؤول رفيع بعد زيارة سنغور إلى تل أبيب عام 1971.
اهتمام إسرائيلي
وضمن إستراتيجية الاحتلال التي رفعت شعار "إسرائيل تعود إلى أفريقيا" وتعتمد على التعاون الأمني والاقتصادي، يأتي الاهتمام الإسرائيلي بالسنغال لمحوريتها في العالم الإسلامي وفعاليتها غرب أفريقيا، ذلك أن دكار منذ عام 1975 تترأس لجنة ممارسة الحقوق الراسخة للشعب الفلسطيني بالأمم المتحدة، وهي رئيس لجنة القدس بالنيابة في منظمة التعاون الإسلامي.
وعندما قررت دكار عام 2004 التوجه للزراعة وإصدار قانون الاستصلاح الزراعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي في المجال الغذائي، وجدت إسرائيل الفرصة المناسبة للتغلغل داخل المنظومة السنغالية، فأعطت مساعدات في مجال الري والمياه وبناء السدود.
ولمنافسة إيران التي قدمت عام 2008 دعما لوجستيا للسنغال في مجال التنمية الريفية شمل أكثر من ألف جرار، قام وزير الزراعة الإسرائيلي شالوم سمحون عام 2010 بزيارة دكار معلنا الاستعداد لتقديم التجارب والخبرات، حيث قال "لا نزور أفريقيا لأخذ مواردها، ولكن لمنحها التكنولوجيا التي تساعدها على التنمية".
وأضاف سمحون أن إسرائيل يمكن أن تساعد السنغال في التقليل من اعتمادها على الواردات الغذائية التي تشكل 80% من حاجيات البلاد.
وفي الفترة الواقعة بين عامي 2011-2015، قدمت الحكومة الإسرائيلية دعما ماليا في حدود 30 مليون يورو للسنغال من خلال برامج الاستثمار الزراعي.
تبادل تجاري
ورغم الزيارات المتبادلة بين المسؤولين فإن حجم التبادل التجاري لم يتجاوز 5 ملايين دولار عام 2015، وهو ما يعكس عدم عمق العلاقة وبقائها ضمن دائرة الانفتاح السياسي والمجاملات الدبلوماسية.
ولا يبدو حال التبادل التجاري مع السنغال أحسن من غيره في عموم أفريقيا، فوفقا لتقارير رسمية وصل حجم الصادرات الإسرائيلية عام 2017 إلى 100 مليار دولار، وكانت النسبة الموجهة إلى أفريقيا أقل من مليار دولار.
وعام 2023 شاركت الحكومة السنغالية في قمة التكنولوجيا المتخصصة في الزراعة التي انعقدت في تل أبيب، حيث يرتبط الجانبان بمجالات من التعاون المتعلقة بالأمن السيبراني وتكنولوجيا الاتصالات.
وتسعى إسرائيل إلى التوغل غرب أفريقيا، إذ تضم المنطقة 350 مليون نسمة، وبها دول غالبيتها من المسلمين ويشكل الانفتاح عليها نصرا للسياسة الخارجية الإسرائيلية التي انقطعت علاقاتها مع النيجر منذ عام 2002، وكذلك مالي عام 1973.
وبالنسبة لإسرائيل فإن دكار من البوابات الرئيسة للتوغل غرب أفريقيا نظرا لاستقرارها وعلاقاتها الجيدة مع الأطراف الإقليمية والدولية.
ورقة فرنسا
وقد استغل اللوبي اليهوي المكلف بأفريقيا داخل الكنيست علاقات فرنسا بغرب أفريقيا وخاصة السنغال لتمتين العلاقات والحضور في مختلف المجالات، ففي مايو/أيار 2022 عقدت في باريس "قمة إسرائيل والعودة إلى أفريقيا" وطلبت الخارجية الفرنسية من الدبلوماسيين الأفارقة المعتمدين لديها وكذلك النخبة المثقفة الحضور لذلك المحفل.
وخلال القمة، قال السفير الإسرائيلي المقيم بالسنغال والمعتمد لدى تشاد والرأس الأخضر وغينيا إن إسرائيل ينبغي أن تكون مثل الدول والمنظمات التي أصبحت فاعلة ومؤثرة غرب أفريقيا، إذ لديها القدرة في أن تقدم الكثير لأصدقائها مثل الزراعة وتكنولوجيا المعلومات.
وفي نفس المؤتمر ألمحت رئيسة قسم أفريقيا بالخارجية الإسرائيلية شارون بارلي إلى أن إسرائيل هي القناة الرسمية نحو الاستفادة من السلطات بواشنطن، واعتبرت أن فرنسا هي الوسيط الموثوق الذي يمكن أن يقارب وجهات النظر بين إسرائيل وبلدان غرب أفريقيا.
ورغم دعم فرنسا المعلن لإسرائيل، فإنها لم تقنع أصدقاءها من الأفارقة بالتصويت لصالح السياسة الإسرائيلية داخل الأمم المتحدة، ولم تضمن لها دخول الاتحاد الأفريقي بصفة مراقب التي تحظى بها السلطة الفلسطينية.
ومنذ عام 2021 لم تعد باريس المؤثر الأهم غرب أفريقيا، إذ شهدت المنطقة انقلابات عسكرية غيرت نمط الدبلوماسية القديمة ولم تعد تعطي أولوية لقرارات الإليزيه.
سلطة جديدة في دكار
ومنذ عام 2016، والسنغال تشهد حراكا سياسيا تقوده تيارات تؤمن بالتحرر وتنادي بالاستقلال الاقتصادي وبناء علاقات مع فرنسا والغرب تراعي المصالح المحلية والاستقلال في القرارات السيادية.
وبعد سنوات من الشد والجذب، نجح رئيس حزب باستيف ورئيس الوزراء عثمان سونكو ورفيقه رئيس الجمهورية بصيرو ديوماي فاي، في الوصول إلى السلطة.
وفي حديث للجزيرة نت، قال أستاذ العلاقات الدولية محمد ولد عبد الله إن الحكومة السنغالية الآن ما تزال في طور انتقال السلطة من الجيل التابع لفرنسا والمرتهن للغرب، وتعمل على قضايا الاقتصاد ومخلفات الفساد التي تركها النظام السابق وغير متفرغة لملفات الدبلوماسية والعلاقات الخارجية.
ويرى ولد عبد الله أن السلطة الحالية في دكار قد تعيد النظر في شكل الدبلوماسية والعلاقات الخارجية التي كانت تتأثر ببعض الدول ذات التأثير الكبير في المنطقة، وأصبح نفوذها متراجعا مثل حالة فرنسا مع مستعمراتها السابقة
حرب غزة وتأثيرها
وبعد معركة طوفان الأقصى 2023، ظهر موضوع العلاقات الإسرائيلية الأفريقية للساحة من جديد، لكن مجزرة المستشفى المعمداني التي نفذها سلاح الجو الإسرائيلي بمدينة غزة يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023 شكلت تحولا كبيرا في المواقف الأفريقية، إذ لم تكتف جنوب أفريقيا بقطع علاقتها مع إسرائيل ولكن تجاوزت ذلك برفع دعوى أمام محكمة لاهاي ضد جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي، وطلبت من 33 دولة أفريقية لها عضوية بالمحكمة التوقيع على الدعوى، وكانت السنغال إحدى الدول الداعمة لتلك الخطوة.
وقد جاءت مواقف الاتحاد الأفريقي منسجمة كلها إزاء الانتهاكات الإسرائيلية للفلسطينيين، إذ قال رئيس مفوضية الاتحاد موسى فكي في قمة السلام المنعقدة في القاهرة أكتوبر/تشرين الأول 2023 إنه حان الوقت لتشكيل جبهة عالمية لوقف العنف الدائر بقطاع غزة والتوقف عن الاكتفاء بالتنديد والدخول في مرحلة الفعل.
وانطلاقا من مسؤوليتها في رئاسة لجنة حقوق الشعب الفلسطيني بالأمم المتحدة، انضمت دكار بسرعة إلى القائمة المنددة بجرائم الاحتلال في قطاع غزة، ونظمت المؤتمر الرابع لدول غرب أفريقيا لدعم القضية الفلسطينية في 14 يوليو/ تموز 2024.
وشارك في المؤتمر الذي جاء تحت شعار "فلسطين أمانة أمة لن نتركها لوحدها" القيادي بحركة حماس أسامة حمدان إلى جانب ممثلها في موريتانيا محمد صبحي أبو صقر وعدد من الشخصيات غرب القارة.
سونكو شارك بمسيرة دعم فلسطين وطالب بعزل إسرائيل (صفحة رئاسة الوزراء السنغالية على فيسبوك)
وخلال القمة الـ15 لمنظمة المؤتمر الإسلامي، قال بصيرو فاي إن دعم بلاده لفلسطين لا يمكن التراجع عنه.
وبعد مظاهرات كبيرة في عدد من المدن السنغالية تطالب بقطع العلاقات مع إسرائيل، خرج سونكو مع المظاهرات التي نظمها أعيان من العلماء وطالب بعزل إسرائيل عن المجتمع الدولي.
ويرى كثير من المتابعين أمثال الحقوقي الشيخ فال والصحفي السنغالي أيوب أفاي أن الحكومة الجديدة في دكار كان عليها أن تجمد علاقاتها مع الكيان الصهيوني مثل ما فعلت تشاد وبعض الدول الأخرى. وهو الأمر الذي سيزيد من انسجامها مع الجزائر التي بدأت مؤخرا ضخ الكثير من الاستثمارات بالسنغال.
ومن جانبه، يعتقد أستاذ العلاقات الدولية ولد عبد الله أن العلاقات بين إسرائيل ودكار أصبحت على المحك لأن حزب باستيف بقيادة سونكو والذي يرسم سياسة البلاد حاليا لا يرضى بالتبعية في المواقف، ويقوم على عقيدة التحرر ومعاداة القوة الاستعمارية، وليس مستبعدا أن يسير مع ركب المقاطعين لإسرائيل.
المصدر : الجزيرة