لم يترك اليمين المتطرف مكانا في أوروبا إلا وطرقه وسجل به صعودا لافتا تارة من خلال صناديق الاقتراع وتارة ثانية عبر الحراك الاحتجاجي ضد قضايا الهجرة واللجوء.
وفي مواجهة اليمين المتطرف بامتداداته العنصرية، وكما تدلل النتائج النهائية للانتخابات التشريعية في فرنسا، يقف سياسيا من جهة اليسار التقليدي الممثل في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية واليسار التقدمي الذي تجسده أحزاب الخضر وأحزاب يسارية شبابية حديثة التأسيس، ومن جهة أخرى اليمين المحافظ الذي تحمل رايته الأحزاب المسيحية الديمقراطية وتتداخل معها أحزاب وسط وأحزاب ليبرالية صغيرة.
أما الحراك الاحتجاجي لليمين المتطرف فيقارعه فقط باحتجاجات سلمية ترفض العنصرية وخطابات الكراهية ضد الأجانب واللاجئين اليسار التقليدي والتقدمي، بينما تسجل أحزاب اليمين المحافظ والأحزاب الليبرالية غيابا واضحا عن الشارع.
لم يعد صعود اليمين المتطرف بقاصر على الديمقراطيات حديثة العهد نسبيا في وسط وشرق أوروبا (المجر مثالا) ولا على الديمقراطيات المأزومة اقتصاديا في جنوبها (إيطاليا مثالا). ولم يعد بموضوعي اختزال صعود المتطرفين والعنصريين في إشكاليات ذات طبيعة خاصة في بلدان أوروبية كبيرة كصعوبات اندماج ذوي الهوية الإسلامية في فرنسا وتحديات دمج الولايات الشرقية في ألمانيا الموحدة ونشر ثقافة التسامح مع الأجانب واللاجئين في مدن الشرق. فقد صار صعود اليمين المتطرف ظاهرة عامة ومرشحة للبقاء في الحياة السياسية الأوروبية لفترة ليست بالقصيرة.
بنجاحات انتخابية متتالية وبنسب تصويتية تتجاوز 30 بالمائة في فرنسا وتقترب من 20 بالمائة في ألمانيا وإيطاليا وهولندا والسويد وغيرها، بات اليمين المتطرف بامتداداته العنصرية والشعبوية كتلة سياسية مؤثرة في أوروبا. وأغلب الظن أن ما ستشهده البلدان الأوروبية من صراعات خلال السنوات القادمة سيرتبط، انتخابيا واحتجاجيا، بالموقف من اليمين المتطرف وحدود التعايش معه وقضايا الهجرة واللجوء التي يوظفها بينما سيتواصل تراجع الأهمية السياسية لقضايا كبرى كمستقبل نظم الرفاهة الاجتماعية وتوزيع الثروة وحظوظ محدودي الدخل من خدمات التعليم والرعاية الصحية ورعاية كبار السن ودور الدولة ودور القطاع الخاص في كل ذلك.
والشاهد أن أوضاع أوروبا اليوم تتشابه وعلى نحو مخيف مع ما كان من أحوالها بين نهاية الحرب العالمية الأولى في 1918 وبداية الحرب العالمية الثانية في 1939 حيث مرت شعوب أوروبا بتحولات متسارعة ومتناقضة.
بين الحربين ولأن الحرب العالمية الأولى رتبت انهيار إمبراطوريات آل عثمان (الدولة العثمانية) وآل هابسبورغ (الإمبراطورية النمساوية المجرية) وآل هوهنتسولارن (حكام المملكة الألمانية) وأورثت الأراضي الواسعة لروسيا القيصرية لدولة جديدة يحكمها حزب شيوعي تماسكت سلطته بعد فترة انتقالية مرتبكة (الاتحاد السوفييتي) وأضعفت اقتصاديا وماليا وسياسيا وعسكريا بريطانيا وفرنسا اللتين انتصرتا في الحرب بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية، كانت أوروبا مسرحا واسعا لتشكل دول قومية جديدة ولصعود تيارات سياسية عنيفة ولتفجر صراعات عسكرية في مواضع مختلفة.
أما الحراك الاحتجاجي لليمين المتطرف فيقارعه فقط باحتجاجات سلمية ترفض العنصرية وخطابات الكراهية ضد الأجانب واللاجئين اليسار التقليدي والتقدمي
بين الحربين العالميتين، تشكلت دول قومية في البلقان الذي تحرر من خليط الاستعمار العثماني والاستعمار النمساوي المجري، وفي المساحة الواقعة بين أراضي روسيا القيصرية-الاتحاد السوفييتي من جهة وبين الحدود الغربية للإمبراطورية النمساوية المجرية السابقة والحدود الشرقية للمملكة الألمانية التي خسرت أراضيها في وسط أوروبا من جهة أخرى. بين الحربين أيضا، صعدت التيارات السياسية العنيفة أقصى اليمين وأقصى اليسار في عموم القارة الأوروبية واجتذبت لتأييدها قطاعات شعبية واسعة. لم تكن الأحزاب الشيوعية والحركات الفاشية العنيفة قوية ومؤثرة في ألمانيا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا والدول الجديدة في البلقان ووسط أوروبا وحسب، بل كانت حاضرة أيضا في بريطانيا وفرنسا وإن واجهتها في البلدين أحزاب يمين الوسط المحافظة وأحزاب يسار الوسط العمالية والاشتراكية. بين الحربين أخيرا، اشتعلت المواجهات المسلحة على الحدود بين بقايا الإمبراطوريات المنهارة والدول الجديدة وكثرت التدخلات العسكرية من قبل جيوش أرادت حكوماتها إما ضم أراض خاضعة لسيادة دول أخرى في الجوار المباشر (الحروب التركية اليونانية وحروب البلقان نموذجا) أو التدخل لدوافع إيديولوجية وسياسية لحسم صراعات وحروب أهلية في دول بعيدة عنها (تدخل النازيين الألمان لدعم القوى الفاشية في الحرب الأهلية الإسبانية مثالا).
في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، كانت مشاهد التظاهرات والمسيرات الحاشدة لليمين الفاشي وللشيوعيين في المدن الأوروبية، بل وحروب الشوارع بين مناصري التوجهين وبينهم وبين قوات حفظ النظام والأمن، دائمة التكرر مثلها مثل الأماكن العامة والصالات المغلقة الممتلئة بجماهير تنتظر حضور زعماء الفاشية والشيوعية لإلقاء الخطب النارية والتحريضية. كانت مشاهد الإضرابات العمالية واحتجاجات مصابي الحروب وأسر الضحايا والمفقودين غير غريبة على مدن أوروبا شأنها شأن الاغتيالات السياسية وتوظيف العنف ضد الآخر السياسي (من الفاشيين تجاه الشيوعيين وفي الاتجاه العكسي كذلك) وضد الأقليات الدينية والعرقية واللغوية. تواترت أيضا أزمات الحكومات المنتخبة وكثرت الانتخابات المبكرة والاستثنائية التي دفعت تدريجيا بالتيارات العنيفة والراديكالية والمتطرفة إلى قلب الساحات السياسية على النحو الذي نجح معه الفاشيون والنازيون وفي بلدان مختلفة في الوصول إلى مقاعد السلطة عبر صندوق الانتخابات والتي لم تكن الحالة الألمانية سوى نموذجها الأكثر كارثية في نتائجه على ألمانيا وأوروبا والعالم.
ومع تطور الصحافة ووسائل الإعلام بين الحربين، باتت أخبار التظاهرات والإضرابات واللقطات المصورة للحروب والمواجهات المسلحة والاغتيالات ومشاهد عودة الجيوش من المعارك وخروج الفقراء والمحرومين إلى الشوارع والميادين بحثا عن النجاة تتناقل أوروبيا لتصنع بين عموم الناس حالة من القلق والترقب والخوف من المستقبل لم يستفد منها سوى دعاة العنف والتطرف. ووجدت الحالة الأوروبية هذه ترجمة لها في العديد من الأعمال الفنية والأدبية، من لوحة بابلو بيكاسو عن الحرب الأهلية في إسبانيا «غرنيكا» والأعمال الأدبية لماكس فريش وفرانتس كافكا اللذين كتبا بالألمانية ونقلا بوضوح الروح القلقة لفترة ما بين الحربين إلى مسرحيات برتولت بريشت وموسيقى كورت فايل ذات الجماهيرية الطاغية في البلدان الناطقة بالألمانية. ومثلما اتسمت فترة ما بين الحربين العالميتين سياسيا بتحولات سريعة جسدها كل من انهيار الإمبراطوريات وتشكل دول جديدة وصعود الفاشيين والشيوعيين وتسببهم في حروب وسباقات تسلح، وتميزت فكريا وثقافيا بسطوة العنيف والراديكالي والمتطرف على الفضاء العام ووعي الناس وتراجع شعبية الأفكار الوسطية (يمينا ويسارا) وشهدت اقتصاديا واجتماعيا أزمات متتالية ارتفعت بسببها معدلات الفقر والبطالة والتضخم والاستدانة (للدول والأفراد) وتعاظمت معها الإضرابات والاحتجاجات إلى أن انهارت مكونات أساسية من المنظومة الاقتصادية العالمية وخيم الركود على البلدان الكبرى (1929) تميزت عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين بتطور علمي وتكنولوجي هائل كان يصنع صورة عالم مستقبلي مختلف عن كل ما عرفته البشرية من قبل وبتقدم مبهر في وسائل التنقل بين القارات والمحيطات والدول وفي الربط بينها على نحو كان يصنع أيضا صورة لعالم جديد لم يعهده البشر من قبل. وفي السباقين، سياق العلم والتكنولوجيا وسياق التنقل عبر الأماكن وترابطها، بدت ظواهر شديدة التناقض مع ما كانت له الغلبة سياسيا وفكريا ومجتمعيا.
هكذا كان حال أوروبا في العشرينيات والثلاثينيات، وهكذا كانت التناقضات بين تحولاتها السياسية التي سيطر عليها الراديكاليون والمتطرفون وبين التقدم العلمي والتكنولوجي الذي كان يصنع عالما مغايرا ويكتسب في ساحات الفكر والثقافة والفن حضورا متزايدا. هكذا كانت تناقضات يوميات العواصم والمدن الأوروبية الكبرى، بين مسيرات للفاشيين والشيوعيين أصحاب الشعارات البدائية ومشاهد للفقر والاحتجاج وبين مسارح ودور للعرض السينمائي ومتاحف تفخر بالعلم والعلماء والتكنولوجيا الحديثة والحريات الجديدة التي كان الناس يكتسبونها (كالتنقل السريع) مثلما تستهجن بدائية الراديكاليين والمتطرفين وتنشر الإيمان بتجاوز الأزمات الاقتصادية والاجتماعية عن طريق المعرفة العلمية القادرة على كل شيء وتنتشي بقرب تحرر كل العالم من الفقر والجهل والعنصرية والاستعمار الذي كانت أفكار حق تقرير المصير ووحدة الجنس البشري تواجهه في إوروبا وخارجها.
هكذا كان برميل البارود الأوروبي بين الحربين، وهكذا هي أحوال أوروبا اليوم التي يهتز استقرارها بعنف.
.....
كاتب من مصر