تمر علينا هذه الأيام الذكرى الرابعة والأربعين لرحيل المغفور له جمال عبد الناصر وهي مناسبة للحديث عن الواقع العربي الاليم الذي يعيشه الشعب العربي اليوم واللامبالاة التي تميز الموقف العربي على المستويين الشعبي و الرسمي أمام هذا الواقع،
.
وهو ما يدعونا إلى التساؤل ... هل مازالت تجري في عروقنا روح العروبة كما تجري الدماء؟ وهل لا نخادع أنفسنا عندما نتصور أن قيمنا الأصيلة كالنخوة والحمية والإقدام والشجاعة والكرم مازالت كما كانت ـ وهي القيم التي تغذي أنهار وشلالات الوحدة العربيةـ أم أنها بدأت تجف تدريجيا؟
وهل نستطيع أن نخفي حقيقة تشرذمنا وهواننا بالرغم من العواطف الجياشة الموجودة لدى كل واحد منا؟
إن المتتبع للواقع العربي الراهن لابد وأن يلاحظ أن أسباب ضعف وتراخي العرب عن التمسك بشجرة الوحدة التي هي المنقذ الوحيد لهم من التلاشي يعود بالدرجة الأولى إلى غياب قيادة تجعل من رعاية تلك الشجرة اهتمامها الأول وتكون صادقة مع نفسها وشعبها لتنال ثقة الجماهير العربية فتكون مثل تلك التي ارتفعت شعبيتها بعد وصولها إلى قمة العطاء فكانت المصداقية وكان التحام الجماهير في كافة أرجاء الوطن العربي بها، إنها القيادة التاريخية الفذة، إنها الضمير الحي للأمة، إنه جمال عبد الناصر الذي أصبح بطلا عربيا ورمزا قوميا نتيجة مواقفه النضالية من قضايا الأمة المتمثلة في التحرر، والانعتاق، ومد يد العون للشعوب المناهضة للاستعمار في كل أنحاء العالم، وخاصة العالم الإسلامي والقارة الإفريقية بعد أن أصبح في نظر الدول- حتى تلك المعادية له- رمزا للتحرر العربي بعد تأميم قناة السويس، وبناء السد العالي فكانت مجموعة عدم الانحياز التي كان له الفضل في تأسيسها إلى جانب السيدين نهرو وتيتو واعتبار الدوائر الثلاثة وهي العربية و الافريقية و الاسلامية اساس تحركه السياسي ناهيك عن ما تم من تغيرات اجتماعية جذرية كانت في حقيقتها لصالح قوى الشعب العاملة من عمال و فلاحين .
لقد ظل هذا الرجل يواصل مسيرته النضالية في المجالات التنموية، والاجتماعية، والسياسية حتى آخر ساعة من عمره فكان التفاف الجماهير من حوله، ومساندتها له في كل خطوة يخطوها ورغم نكسة حزيران 1967 والتي عندما قرر بعدها التنحي انتفضت الجماهير من المحيط إلى الخليج رافضة التنحي ومصرة على بقائه قائدا لمسيرتها حتى يتم النصر فأرغمته على العدول عن قراره بالتنحي والتفت حوله وكرسته رمزا وبطلا قوميا ساهم في النهوض بأمته، والرفع من شأنها، فإن الشعب العربي لا زال يتغني بأمجاده وبطولاته التي رسخت في الضمير العربي إيمانه بأن مسيرته لن تتوقف مهما تراكمت الأحداث، ومهما طغى الضالون و الفساق، واستبدوا. ومهما فعل أصحاب ثقافة الانهزام والاستسلام ولنا في ما شاهدنا من حراك جماهيري عربي منقطع النظير في مصر الشقيقة في الآونة الأخيرة دليل على ذلك. والمتتبع لتاريخ هذه الأمة يعرف أنها أمة فيها من القوة الكامنة والمتجددة ما يجعلها تفاجئ أعداءها دوما. فكلما ظنوا أنها انتهت نهضت من نومها متجاوزة كل العوائق للوصول إلى أهدافها الكبرى لأن الأمة التي كرمها الله بحمل رسالة الإسلام إلى البشرية جمعاء لا يمكن أن تنكسر وإن كانت فقدت لفترة معينة البوصلة بفقدان القيادة التاريخية.
وهنا لابد أن يكون لأصحاب الضمائر الواعية والحية الدور الرئيسي في ذلك، فلابد لهؤلاء أن يلعبوا دورهم كاملا في هذا المجال لأن الحالة السياسية الاجتماعية ترغم هؤلاء على القيام بدورهم في إنارة الجماهير العربية نتيجة لما نشاهد هذه الايام من خطر يهددها أي الجماهير. فالذين كانوا يعولون على أمريكا لحمايتهم قد شاهدوا بأم أعينهم كيف تتخلى عن عملائها لأنها دائما تهرول وراء مصالحها ولا يهمها غير ذلك فاقتصادها أصبح في تدهور مستمر لكونه اقتصاد خدمات بالدرجة الأولى. ولو شاء القدر أن يتوقف العرب عن مدها بعائدات البترول في شكل صفقات تجارية لا مردودية اقتصادية لها، مثل صفقات السلاح التي تعتبر نتيجتها الأولى تشغيل المصانع الأمريكية، وإيهام بعض الشعوب العربية أن لها جيوشا مسلحة بأحدث الأسلحة في الوقت الذي لا تساوي فيه تلك الأسلحة أي شيء من الناحية العسكرية لكونها دائما أسلحة تم تجاوزها من حيث النوعية ولو استخدمت هذه الأموال في تنمية الإنسان العربي بشريا واقتصاديا واجتماعيا لنهضت الأمة وانهار الاقتصاد الأمريكي الممول الحقيقي للاحتلال الصهيوني لفلسطين ذلك الاحتلال الذي لن يزول إلا بانهيار أمريكا اقتصاديا حتى لا يكون باستطاعتها الاستمرار فيما تقدم من دعم لا حدود له مما مكنه أي الاحتلال الإسرائيلي من الاستمرار في احتلال الأراضي العربية، وتدمير مشاعر الإنسان العربي الذي يقف هذه الأيام عاجزا عن رفع معاناة الشعب الفلسطيني بعد ما شاهدنا من مجازر في غزة .
إن التخلف الفكري والسياسي لمعظم قادتنا جعل العديد منهم ينسلخون من اهتمامات شعوبهم ليرتموا في أحضان الغرب مقدمين له كل ما يريد ليحمي لهم كراسيهم التي كان باستطاعتهم التمسك بها بطريقة شريفة لو استجابوا لطموحات شعوبهم بإتباع سياسات هدفها خدمة هذه الشعوب بما يحقق لها السيادة على أراضيها والاستفادة من ثرواتها وكلى أمل في أن يستنتج هؤلاء الحكام العبرة مما وقع في تونس ومصر ليفهموا أن الغرب لا صديق له، فهو يستخدمهم ـأي الحكام العرب ـ لمصالحه وعندما يصبحوا غير قادرين على حماية تلك المصالح يتبرأ منهم مستهجنا ثم منددا.
إن الوضع العربي الراهن غير المسبوق لابد وأن ينتج تغيرا كبيرا على الساحة العربية راجين ان تكون ملامحه الرئيسية سيادة الإنسان العربي الواعي المدرك لمصالح أمته على أرضه وتحكمه في ثرواته مع التجسيد الفعلي لمعاني التضامن والأخوة العربيين عبر العودة إلى استئناف مسيرة التطور الحضاري الشامل عن طريق مشروع نهضوي متكامل وبنفس طويل بعيدا عن الحلول المرتجلة، ولن يحدث هذا إلا بتحرير العقل العربي من مفاهيم التخلف الفكري .
وهنا يكون للثقافة والمثقفين والمفكرين الدور الأكبر لأن هؤلاء هم من يصنع التقدم ولأن التاريخ أثبت أنه ما سبق لأمة أن تقدمت إلا من خلال ثقافتها التي هي مأوى حضارتها. ولأن أي مشروع يراد له النجاح لا بد وأن ينطلق من رؤية حضارية تتماشى وطبيعة مجتمعه، وأن يكون من يتولى قيادته من أصحاب الرؤية الحضارية واستشراف آفاقها أي رؤية موضوعية للواقع اليومي المعاش لكي لا تغيب رؤية الحاضر ولكي لا يبقى حضور رؤية الماضي وحده لأن الحاضر والمستقبل يجب أن يكونا مستندين للرؤية المستقبلية. لكون منطلقاتنا يجب أن تأخذ في الحسبان كل ما هو إيجابي في ماضينا ضمن مراجعة نقدية بناءة للتجربة العربية بهدف وضع تصور يحفظ لشعوب هذه الأمة الاستفادة من ثرواتها في مناخ فكري وسياسي سليم يضمن الممارسة الديمقراطية الحقيقية واستخدام الثروات العربية لصالح الشعوب بدل أن تظل في أيدي قلة تستخدمها فحسب للبقاء في السلطة ولو على حساب شعوبها، فلابد من حرية التنقل بين الأقطار العربية وكذلك حرية التملك، وإعطاء الأسبقية للعامل العربي في العمل بدل الأجنبي وتوجيه الاستثمارات العربية إلى داخل المنطقة العربية، كل هذا ضمن نظرة تقدمية لمفهوم القومية العربية التي هي حركة فكرية تحررية مساندة لكل قضايا التحرر العادلة في العالم و لها جذور حضارية أساسها الانتماء الحضاري فكل منتم لهذه الحضارة فهو من هذه الأمة التي كرمها الله برسالة الاسلام التي لا تفرق بين الناس إلا بالتقوى فهل هناك من يستطيع القول إن بلال بن رباح وصلاح الدين الأيوبي وسيبويه غير عرب؟ و الكل يعرف ما كان لهؤلاء من دور عظيم في النهضة العربية وهل هؤلاء كانوا يعتبرون أنفسهم عربا أم لا ؟ والكل يعرف ما كان لهم من دور بارز في النهضة العربية.
فعلينا أن نتحلى بالمفاهيم المعاصرة من تحرر وديمقراطية ونعتز بتنوعنا العرقي, مما يحدث التفاعل الحضاري مع الثقافات الأخرى وأن نعتبر القيم العربية جزءا من القيم الإنسانية وأن التدخل الغربي في قضايانا هو فقط من أجل السيطرة على مصادر الثروة القومية لأمتنا خدمة لرأس المال الغربي وأن ننتقل بمفهوم العروبة من الواقع الحضاري الغني لهذه الأمة إلى مشروع تنموي في كافة المجالات يكون لنا مشاريع كبرى في مجالات حرية الكلمة على أساس أنها المقدمة الأولى للديمقراطية في مجالات الإعلام والثقافة والفكر واحتضان المجتمع المدني. فهذه القضايا يجب أن تنال الأولوية في مشاريع التنمية ,فالأوضاع الجديدة تجب مواجهتها بنظرة جديدة و أدوات جديدة.
إن من أبرز متطلبات الوضع العربي الراهن توفير عنصر الإرادة السياسية لإرساء قواعد المستقبل في اطار نظرة شمولية تلبي للإنسان العربي احتياجاته اليومية في كافة مجالات الحياة حتى لا يظل ضحية للأفكار البالية من تكفيرية و جهادية متكلمة باسم الاسلام وهي ابعد ما تكون منه، وهنا تقع المسؤولية الأولى علي علمائنا ومفكرينا وأصحاب المال فينا من دول، ورجال أعمال.
فهذا هو السبيل الوحيد للمضي في الطريق الصحيح لأنه لا يمكن أن نتحدث عن المستقبل وننسى أنه مرتبط برغبة الإنسان ومرتهن بوجود القدرة التي لا بد أن تتوفر لها الإرادة.
وهنا لا بد من الإصلاح ضمن إرادة ونظرة سياستين والتين بدونهما يبقى كلما نقوله كلاما لا طائل من ورائه.
إن إفساح الطريق أمام الدماء الجديدة صاحبة الكفاءة والتجربة سيمكن من إيجاد قيادات مقتدرة بإمكانها أن تقود الأمة إلى بر الأمان تكون متسلحة لذلك بمعرفة خصائص هذا العصر ولوازمه بمافيها التداول على السلطة من خلال ديمقراطية حقيقية ركيزتها سيادة القانون.
فغياب الرؤى الواضحة وضعف تمثيل القوى السياسية الحقيقية أي صاحبة الرؤى والأهداف الواضحة فضلا عن انتشار الفساد وضعف المصداقية بل انعدام الشفافية، كلها عوائق كبرى أمام التقدم.
فلابد من تجاوزها وإلا نكون قد وضعنا تصوراتنا على أسس خاطئة تمنعنا من أن نرى الواقع كما هو، خاصة أن بداية العلاج هي الحديث عن الأعراض الحقيقية للمرض ضمن تصميم أولوياتنا اليوم وعلى رأسها نشر ثقافة الحوار والموعظة الحسنة وقبول الآخر واحترام رأيه وموقفه وصولا إلى ثقافة ديمقراطية تتصارع فيها الآراء بروح الود والأخوة والتسامح بدل التنافر والتناحر لتسود في النهاية الرؤية الأصلح و البقاء دائما للأصلح.
إننا كلما قمنا بنظرة متأنية للواقع العربي المعاش اليوم، سواء في ليبيا أو سوريا أو فلسطين أو العراق أو اليمن أو البحرين أو الصومال أو السودان أو غيرهم، يتأكد لنا أن الطريق الوحيد للنهوض بهذه الأمة، هو القيام بمراجعة شاملة لحياتنا اليومية بهدف مواجهة شُجاعة وصارمة لمشكلاتنا بوعي صادق و مكاشفة تامة يتم من خلالها إظهار الحقائق كما هي لنصنع مجتمعا عربيا جديدا ذا مصداقية واحترام في العالم.
وهنا يجب أن نواجه أمراضنا بوضوح ونتعامل مع مشكلاتنا بشكل صريح في إطار من الانفتاح على الغير مع المساهمة الفعالة في نشر القيم الحميدة كما كان يفعل أجدادنا وكما يجب أن يفعل اليوم علماءنا وقادتنا وكل الخيرين من شعبنا.
لقد حان الوقت للتخلص من التبعية الخارجية لقادتنا ومن تهميش شعوبنا وإبقاء الفقر والتخلف والجهل سائدين، فهذه أمراض لابد أن نتخلص منها.
فإذا كنا نريد لمجتمعنا العربي البقاء كمجتمع محترم، ضمن المنظومة الدولية، التي لم يعد فيها مكان إلا للقوي المستنير، الذي يتبنى قيم العدل والديمقراطية والمساواة.
لا بد من البدء بفهم وقبول الواقع العالمي الجديد وانعكاساته على مجتمعنا العربي، لتصور حلول مستلهمة من الماضي بغية إيجاد نظرة واضحة وشاملة للحاضر والمستقبل واستلهامنا من الماضي يجب أن يكون بقدر جدوائيته للحاضر والمستقبل. وهنا يكون دور قوى الأمة الفاعلة من نخب فكرية وسياسية قويا وهي النخب التي تقع عليها بالدرجة الأولى مسؤولية نقلنا من موقع التابع الذي لا فعل له إلى موقع الفاعل لنشكل حركة فكرية قادرة على إحداث التغيير المطلوب في عقلياتنا أولا ثم في سلوكنا .
إن عملية مثل هذه لابد وأن يكون هدفها الإصلاح الشامل الذي يبدأ بصياغة رؤى فكرية معاصرة منطلقة من حضارتنا ومنسجمة مع تطلعات جماهيرنا لتشكل حركة فكرية قادرة على إحداث التغيير المطلوب في عقلياتنا أولا ثم في سلوكنا اليومي وهي حركة يجب أن تتعايش مع ثوابت الأمة وتأخذ بمتطلبات العصر لإرساء قواعد دولة القانون وانتهاج الديمقراطية التعددية إثراء للنظرية العربية المعاصرة، مع اعتماد ممارسة النقد البناء أسلوبا للمشاركة وإشاعة روح البحث العلمي وخلق المناخ الملائم لتفجير طاقات المبدعين من أبناء الأمة.
إن احتكار القرار السياسي لم يعد ممكنا في ظل عالم تطبعه الحرية واللامركزية مما يجب أن يدفعنا إلى توسيع دائرة المشاركة واحترام الخصوصيات، تلك الخصوصيات التي قد تكون مصدر قوة لنا إذا فهمنا كيف نستغلها بدل أن تكون مصدر ضعف يستغله الأعداء مثل ما حصل في السودان والعراق.
إن إشاعة قيم التسامح والتكافؤ في الفرص السياسية والإدارية والثقافية باستطاعتها أن تساهم في خلق جو مناسب نبني عليه أفكار التغيير التي يجب أن نتبناها، وأن تروج لها النخبة التي عليها إتقان لغة الحق والأخلاق الحميدة، لنعيد صياغة حياتنا ونحصن أمتنا أمام الأزمات التي تخلقها قوى الاستعمار والاستغلال مع تصور الخطط النيرة لضمان مستقبل هذه الأمة.
فالرهان هو أن نعرف كيف نتكيف مع المتغيرات فكرا وعملا للنهوض بشعوبنا من واقع التخلف والتبعية إلى المساهمة في ما يجري في العالم من تغييرات عبر مشاركتنا في صياغة جديدة له.
لكن ذلك يتوقف على قدرتنا على تشغيل عقولنا المصادرة هذه الأيام وطاقاتنا المشلولة، واستغلال مواردنا المنهوبة بصورة مثمرة وفعالة بما تخلقه من الوقائع وتحققه من منجزات أو تحدث من تحولات في مجالات الحياة.
إن ما يجب أن نعيه جميعا على المستويين الشعبي والرسمي هو أنه لن يكون هناك تقدم لهذه الأمة في هذا العصر الذي نعيش فيه تحديات كبرى إلا بعمليات إصلاح جذري وشامل على المستويين القطري والقومي فالمشاكل واحدة والشعب واحد والمستقبل واحد والقرارات الانعزالية والاستقواء بالأجنبي أمور كلها ثبت فشلها، وإن معركة تحرير فلسطين التي هي قضية العرب المركزية هي الآن معركة إصلاح لكل البنية العربية بدءا بالبنية الفلسطينية التي أصبحت عالة على القضية بعدما دخلت في الصراعات العربية العربية وحتى الدولية ومع هذا كله فعندما تكون للجماهير العربية الكلمة فسيصبح القرار بيد القوى السياسية الواعية وعندئذ لن يكون باستطاعة إسرائيل ومن يحمونها بالمال والسلاح الصمود أمام أية إرادة عربية حقيقية للتحرير، لأن تلك الإرادة سيكون من أولوياتها استخدام الثروة العربية لصالح العرب قبل سواهم فما بالك بأن تستخدم هذه الثروة لتمويل أعداء العرب الحامين لإسرائيل.
إن علينا كعرب قبل كل شيء تجفيف المضخات المالية الهائلة التي تمد الاقتصاد الغربي وخاصة الأمريكي منه، إذ توفر طفرة مالية للحكومة الأمريكية المسيرة من طرف اللوبيات اليهودية التي تقوم بتمويل وتسليح إسرائيل بشكل يضمن لها السيطرة الكاملة على منطقة الشرق الأوسط ومحاربة أية قوة لا تجاري أمريكا وإسرائيل في خططها العدوانية على شعوب المنطقة العربية والإسلامية. فالمرحلة تستدعي بلورة وعي باستطاعته وضع استراتيجية عربية بمفاهيم وأساليب وآليات جديدة للتعامل مع الأزمات غير المسبوقة التي يعيشها وطننا، فالأمر لا يتعلق بترميم نظام عربي متداع وإنما الاستعداد للانتقال من مناخ المعادلة الدولية الحالية إلى آفاق معادلة دولية جديدة هي في الحقيقة قيد التكوين بعد زوال القطب الواحد بعد ما كانا إثنان وعلى العرب أن يكونوا فاعلين في تكوين تلك المعادلة باعتمادهم علي قدراتهم الذاتية بدل الهرولة وراء الغرب الذي لا يريد لهم إلا الدمار.
فالنفوذ الدولي الصيني والقفزة الاقتصادية لآسيا بشكل عام من شأنهما أن يخلقا توازنات جديدة في العالم قد يكون للعرب فيها دور كبير إذا ما استطاعت الجماهير العربية إفشال المخطط الغربي الجديد المتمثل في تجزئة الوطن العربي بما يخدم مصالحه ـأي الغرب ـ علما أننا لاشك سنعيش عقدا من الزمن على الأقل قبل أن تأخذ الأمور مجراها النهائي على المستوى العربي بمعنى انتهاء الحراك الحالي الموجه ضد القضايا الكبرى للأمة وخاصة القوى القومية والديمقراطية منها صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير والتي هي المُعَبِر الحقيقي عن آمال الجماهير العربية.
ولعل ما يواجهه تحالف العالم الغربي مع الاسلام السياسي سواء المعتدل أو الجهادي من هزات هذه الأيام نتيجة الرفض الواسع للجماهير العربية لَدليل على فشل هذا التحالف أمام إدارة الجماهير العربية التي أصبحت تعي ما يحاك ضدها من مؤامرات دنيئة.
لقد كان وصول الإسلام السياسي إلى السلطة في بعض الأقطار العربية واختطافه للنظام العربي نحو المجهول، بمثابة الإنارة المباشرة للرأي العام العربي لخطورة الوضع، ولنا فيما يحصل هذه الأيام في ليبيا و ظهور داعش و النصرة وغيرهما المثل الحسن في هذا المجال.هذا بالإضافة إلى انتكاسة الدولة المدنية خاصة فيما يتعلق بالحريات والأحوال المدنية وكان وصول الإسلام السياسي إلى السلطة، هو نتيجة للسياسة الأمريكية الهادفة إلى تجنيد هذا الإسلام لمواجهة التطرف الإسلامي من جهة، وإيران من جهة أخرى السبب المباشر لهذه الوضعية.
لقد رأت أمريكا في وصول حزب العدالة والتنمية الي السلطة في تركيا- عضو الحلف الاطلسي- نموذجا لباقي الدول الإسلامية الأخرى في ممارسة السلطة يمكن تعميمه.
وبعد فشل تركيا في دخول الاتحاد الأوروبي نتيجة الديانة الإسلامية وبحثا عن دور سياسي يعطي لها مكانة جديدة في العالم الإسلامي مثل ما كان في عهد الدولة العثمانية، قام "أردوغان" بتوجيه سياسة بلاده نحو الدول العربية فوجدت أمريكا وإسرائيل لحليفهما القديم دورا جديدا يتمثل في مواجهة إيران والقوى القومية والتقدمية الممانعة في الوطن العربي فقام هذا المعسكر باستخدام حجج مضللة مثل غياب الديمقراطية في هذه الدول، بالإضافة إلى استخدام الطائفية الدينية لتجنيد أبناء الطائفة السنية ضد إخوتهم في الإسلام من شيعة حتى أصبحت الأولوية هي لقتل المسلم لأخيه المسلم ومحاربة الجبهة المعادية لإسرائيل مثل سوريا وحزب الله وكأنهما العدو الأول والوحيد للعرب والمسلمين وكأن إسرائيل لم تعد موجودة.
فكم سمعنا من فتوى في هذا المجال من طرف رجال كنا نرى فيهم مرجعيات إسلامية وكان عليهم أن يصدروا هذه الفتاوى للجهاد ضد إسرائيل بدل إخوتهم في الإيمان وفي الدم لكنهم فضلوا أو فضل من يوجههم استغلال الحراك العربي- الذي كانت مطالبه كلها اقتصادية واجتماعية وتحويله إلى حراك مذهبي مستخدمين الآلة التكفيرية لتحطيم الأمن القومي والإسلامي بعبارات إسلامية ولغة عربية خدمة لأعداء العرب بدل الدعوة لصيانة الإنسان العربي والإسلامي.
لقد جعلوا المستفيد هو العدو حتى أننا لم نعد نستطيع فهم ماذا أصاب العقل العربي الذي فاته أنه لو كانت هناك إرادة عربية بقيادة قومية لكانت استوعبت إيران وحالت دون الأطماع التركية.
إننا اليوم في أمس الحاجة إلى وعي عربي وإسلامي حقيقين لتحصين الإنسان العربي والإسلامي ضد الإعلام المذهبي المضلل الذي يستخدم الأدوات الإسلامية لضرب الإسلام والمسلمين، حتى يفهم الجميع حقيقة ما يحاول الغرب اليوم القيام به من سيطرة على الشعب العربي لاستنزاف ثرواته وتجزئته من جديد ولسنا في حاجة إلى دليل لإقناع الناس بهذه الحقيقة.
وبما أن البعض قد يحتاج إلى رأي محايد في هذا الموضوع فقد ارتأينا إعطاء رأي أحد رجالات الغرب الذين يقومون يوميا في هذه الآونة بالسهر على مصالح دولهم في منطقتنا العربية والذي لا يمكن لأي كان أن يصف كلامه بغير الواقعي، إنه السفير البريطاني في لبنان السيد فلتشر الذي قال في إطار حديث له مع بعض الأصدقاء في لبنان موجها كلامه إلى العرب : " إن مهمتي أن أقدم مصلحة بلدي لماذا لا تصنعوا مصلحة بلدكم؟ ثم يضيف إن معاهدة سايكس بيكو 1916 وضعت لمصالح بريطانيا وفرنسا وفي الأفق اليوم مشاريع سايكس بيكو جديدة لماذا لا تعملوا لحسابكم وحساب وطنكم ومصلحته؟ لماذا لا يكون القرار قراركم؟ ".
لقد جاءت هذه الكلمات للسيد فلتشر خلال عشاء أقامته شخصية لبنانية على شرف مجموعة من السفراء والشخصيات اللبنانية في بيروت وتم نقلها عن السيد السفير في العدد 12606 لجريدة الشرق الأوسط الصادر يوم 1/6/2013.
إن ما أوصلنا لهذه الوضعية من بين أمور أخري هو ابتعاد بعض مفكرينا الإسلاميين عن فهم رسالة الإسلام كما هي حيث قاموا بنشر أطروحات و مفاهيم تبعدها عن حقيقتها بوصفها رسالة كرم الله بها العرب و حملهم مسؤولية إيصالها إلي العالم كرسالة حب وسلام حيث يقول الله تبارك وتعالى ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (وكذلك أنزلناه حكما عربيا) سورة الرعد.
وبما أنني لست سوي مقلد في هذا المجال ولتوضيح لكم العلاقة العضوية بين الإسلام و العروبة أحيلكم إلى محاضرة للعلامة الجليل والقدوة الحسنة محمد سالم ولد عدود رحمه الله ألقاها سنة 1977م أمام شباب "تيارت" بانوا كشوط و كان عنونها: "القومية العربية في الإسلام" و ستجدون النص الكامل لهذه المحاضرة مرفقا مع هذا المقال..
يتواصل ... بحول الله