كتب على أبو عاقلة: عن خَي بابَ شيّاخ

2022-11-29 07:44:43

كتب الكاتب والإذاعي والسياسي السوداني، علي أبو عاقلة أبوسن، وكان يعمل مذيعا بهيئة الإذاعة البريطانية في لندن، نهاية الخمسينيات وستينيات القرن الماضي.

كتب في كتابه "المجذوب.. والذكريات: أحاديث الأدب والسياسة بين الخرطوم-و لندن-و القاهرة-و باريس":

"من الشخصيات التي تعرفت عليها في لندن، وقدمتها للمجذوب، مثقف موريتاني خطير، ومتمرد إنساني جامع، اسمه: خي بابا شياخ، كان أسمر اللون أفرو - عربي الملامح، جاء إلى لندن كأول أنسان من الجنوب المغربي السحيق بل من المغرب العربي كله، يلتحق بالإذاعة البريطانية. 

كان غريبا مستوحشا كالفهد الأفريقي الذى وقع في الأسر. كان ينظر إلى الناس في توجس لم يكن خائفا، ولكنه كان كالفارس الذى جرد من سلاحه، وكان سلاحه هو اللغة الفرنسية واللغة العربية المطلقة الفصحي. 

حينما وصل خي بابا، كنت أنا قد صنعت مملكتي الخاصة، وتجاوزت - في حسابات البعض - كل حدود المياه الأقليمية للحيتان الكبيرة والمتوسطة ! وفي المجال الثقافي كان خي بابا شياخ من أجمل اكتشافاتي. كان مثقفا في اللغة العربية ثقافة عميقة. وكان الحوار معه متعة خالصة.

وقد عمرت صداقتنا، بعد عهد الأذاعة سنوات كانت هي عهد عمره القصير العاصف. 

كنا نذكره دائما المجذوب وأنا، بقصة طريقة: دخلت يوما إلى أستديو Brown Cont. الذي تبث منه الإذاعة العربية فوجدته هناك يحمل هموم الدنيا فوق رأسه، غاضبا في هدوء، مكتئبا في صمت. 

سألته : ماذا بك ؟ 

فانفجر في ثورة لم أعرفها فيه من قبل، وقال: يا أخي هؤلاء.. أبناء القاعدين يتحدثون معنا بهذه الطريقة ؟ 

قلت: هدئ من روعك أولا. من هم أبناء القاعدين ؟

قال: هؤلاء الذين يسمون أنفسهم عربا من سكان الشام.. والحجاز.. والعراق. إلخ. هذه المسميات التي كانت بلادنا يوما

قلت ماذا فعلوا ؟ 

قال : يسألونني، ويتحدثون عن لغتي العربية، ويقولون لي: إنك تتحدث العربية جيدا !! 

قلت: وماذا في هذا ؟ 

قال: يا أخي، حينما بدأ التحرك العربي باسم الإسلام وزحف العرب ليحتلوا المعمورة في العالم القديم، تحرك أجدادنا نحن ففتحوا البلاد، وحرسوا الثغور، وقاموا بحماية الدولة العربية، وتزوجوا من بنات الشعوب المختلفة من أفارقة، وأوربيين، وآسيويين، وأنجبونا نحن، ولم يبق بالبلاد العربية في تلك الأزمان إلا القاعدون الذين لم يكونوا فرسانا، ولا زعماء، ولا قادة، ولا جنودا، ولا حتى مساعدين للجيوش. 

لم يتخلف في البلاد العربية إلا السقاؤون، والعجزة والخصيان، قعدوا في الديار مع النساء والأطفال، فهؤلاء الذين هم أبناء القاعدين يقولون لي أنا إنني أتحدث العربية بطلاقة وبجودة ؟!! 

إنني أنا العربي الحقيقيي. أما هم فليس لهم في تراث العرب نصيب.. اللهم، إلا نصيب الخدم والسقائين. 

قلت له: يا أخي هدئ من روعك، فهذا الأمر ليس خطيرا إلى هذه الدرجة. نحن السودانيين، اعتدنا علي هذا النوع من الحديث، وهؤلاء الذين يقولون لك هذا لا يقصدون شراء ولا إساءة. إنهم فقط، لا يعرفون ما تتحدث عنه أنت الآن، أو لا يفكرون فيه. إنهم أبرياء، مثل أجدادهم تماماً وهنا ابتسم الفهد الأفريقي.

ويعتدل المجذوب في جلسته، يحدثني عن عبقرية خي بابا "ذلك الموريتاني المذهل، الذى تبادل معه أحاديث طليّة عميقة. 

كانا يشبهان بعضهما في جوانب كثيرة. 

....

قال لي المجذوب إن خي بابا هو أول شخص يقابله من موريتانيا، التي يسمع عنها، ولا يكاد يعرف موقعها في الخريطة. 

قلت له: وأنا أيضا ولكن بالنسبة لي، وله كان التعارف سهلا، والود طبيعيا، فهو يشبه السودانيين ككثير من الموريتانيين. وبعد التعارف والتدارس أدركت أنذاك، أن الموريتانيين هم "الشناقيط " الذين نعرفهم جيدا في السودان والذين طالما حل علماؤهم في دار "أبوسن" بالقضارف حيث وجدوا كل العناية والترحاب من عمي محمد حمد أبوسن، ناظر الشكرية في الشرق، الذي كانت داره قبلة العلماء من كل الملل.

 

 وقد رأيت في بابا شياخ لآخر مرة حينما كنت قائما بالأعمال في باريس سنة ۱۹۷۲، فقد زارني فجأة، وتحدث من مكتبي مع أصدقائه في نواكشوط طالبا إرسال بعض الكتب. ثم ترك لي رسالة اعتذار صغيرة هي من عيون الأدب، كنت سأثبتها هنا لولا أنها بين أوراقي في الخرطوم، بعيدة عن يدى ثم سمعت أنه مات في منفاه الأخير - ليبيا - ومن مات في ليبيا فقد مات مرتين !"

رحم الله الكاتب والإعلامي الأديب خي باب شياخ، ورحم الكاتب والإعلامي الأديب علي أبو عاقلة أبوسن.

كامل الود

 

نقلا عن صفحة إكس إكرك

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122