من أعلام الإصلاح في بلاد شنقيط؛ الصالحة آمنة بنت يوسف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..
وبعد، فهذه ترجمة مختصرة للوالدة (جدة والدي؛ أم والده) المرأة الصالحة آمنة بنت يوسف، كتبتها قبل سنوات، وسعدت باعتمادها مصدرا من طرف الشريف الشريف حفيدها الأستاذ
أحمدو ولد باباه ولد بدي في رسالة تخرجه في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية بعنوان: "الصالحة آمنة بنت يوسف، حياتها ورسالتها الإصلاحية" والتي تشرفت بأن كنت مشرفا على معدّها.
1 -مولدها
ولدت الصالحة آمنة بنت يوسف حوالي ١٢٧٥ هـ (تاريخ ميلاد تقديري، بالمقارنة بين سنة وفاتها المضبوطة مع سنوات عمرها حسب تقديرات بعض أحفادها) في منطقة الساحل، لبيت من بيوت الشوكة حيث ينتمي والدها يوسف ولد عبد الله لقبيلة الشهامة والعز إدوعيش. بينما تنتمي والدتها أمات بنت لعميم إلى قبيلة النجدة والكرم؛ قبيلة الكرع "بكاف معقودة" ومع عراقة هذا البيت في بيوتات "العرب" و"حسان" مع ما تقتضيه أعراف المجتمع من انخراط محيطه في حمل
السلاح وصولات الحرب وجولاتها، كان هذا البيت معروفا بالصلاح والاستقامة والتواضع ونفع الناس.
2 -نسبها:
هي آمنة بنت يوسف ولد عبد الله ولد محمد ولد أحمد ولد َخيار ولد محمد بوخونا. وفي هذا الجد العظيم تجتمع مع أسرة الإمارة والرفادة في إدوعيش، أسرة أهل سويد أحمد.
3 -رمزيتها في الصلاح والإصلاح:
تعتبر الصالحة آمنة بنت يوسف رمزا من رموز الصلاح والإصلاح في بلاد شنقيط؛ نالت من إجماع معاصريها من العلماء والصلحاء ومن تبعهم على تزكية سيرتها والاعتداد
بدعوتها للإصلاح بل سعيها وتوفيقها في ذلك المسعى - رغم نشأتها في الغربة عن مرابع قومها – ما جعل العلامة المفسر حبيب الله ولد محمد ولد محمود - من أهل بارك الله - يقول
في تزكيتها:
أرى أم النبي لها سمي ** تصان بها المكارم والمعالي
تسامي في الإنارة كل شمس** وشيمتها السماحة بالنوال
"ولو كان النساء كما رأينا** لفضلت النساء على الرجال"
كما جعل العلامة الشاعر الشيخ عبد الله (الشيخ كلاه علما) ولد صلاحي التندغي يعلنها صريحة:
"أآمنة هل من شفاء بنظرة** لداء محب يبتغى بالأصابع
كفى بك فخرا أن تندغ كلها.. وأقطابها والخمس مأوى الشرائع
لديك قعود ترتجي عفو ربها** وأفضاله. أما حدي المنازع!"
مثالين لا حصرا.
4 -التزامها بالسنة في سيرتها وإصلاحها:
رغم القبول الذي وضع الله لهذه المرأة الصالحة، والمنافع المادية والمعنوية والروحية التي أجرى على يديها، ما جعلها قبلة للمحتاجين والمرضى وطلاب العلم والعجزة، فضلا عن
أكابر القوم ومنتسبي بيوتات الشرف والعزّ في محيطها الجغرافي (منطقة القبلة وإينشيري وتيرس وتازيازت...) رغم ذلك ورغم ما تتناقله الأفواه وتثبته الوقائع من الكرامات، فإنه لم يؤثر عن هذه المرأة الصالحة ما يعّكر صفو هذا الإصلاح مما قد يصاحبه أحيانا مما قد يفسر على أنه مخالفة للسنة أو شطط في الحديث عن الغيبيات أو الاعتداد الزائد بالنفس أو سخرة الناس...
بل إن المنقول عنها من التواضع (تتحّدث حفيدتها الصالحة امينه بنت الشيخ رحمها الله، عن إضرابها عن الجلوس على الحصير أو التحاف جدد الثياب أو استعمال ملذات المأكل.. تواضعا لله عز وجل) وما تتضافر الروايات فيه من اشتداد غضبها واحمرار عينيها عند وصفها بالولاية أو الصلاح!.
هذا فضلا عن كونها – وهو أمر لا يزال إلى الآن في صلحاء أبنائها – لا تسمح بتعليق التمائم أو الكتب مهما كان مضمونها، وتعتاض عن ذلك بالرقية الشرعية من الكتاب والسنة.
5 -ورعها ودعوتها:
لا يكاد المتحّدثون عن سيرة الصالحة آمنة بنت يوسف يجمعون على شيء، إجماعهم على حساسية الصالحة آمنة من المعاصي ونفرتها من ارتكاب المحرمات، وورعها الذاتي
وبعدها عن الشبهات..
يتحّدثون عن أحد أعز أبنائها إليها أقدم على ذبح شاة تمتلكها هي، بغية علاجها بلحمها، ولكن دون إذنها، فما كان منها إلا أن أضربت عن أن تطعمها، على اعتبار أنها شاة ذبحت دون علم مالكها! تورعا منها أولا ثم تأديبا لمن معها ثانيا وأطرا لهم على التورع والاحتراز من الشبهات.
وهي عادة ورثتها من أسرتها الصالحة، حيث يتحدث أحفادها (ومن بينهم والدي محمد غلام ولد أحمدو رحم الله الجميع) عن كون والدتها "أمات بنت العميم الكرعانية" كانت إذا وقعت معصية في بيت هي فيه أصيبت بالصرع والغثيان!
هذا بالإضافة إلى ماهو معروف من مناهضتها للنصارى وتصديها لمحاولات اختراقهم للمجتمع ببعثاتهم السرية ودعواتهم المغرضة، مما هو معروف متداول.
6 -بثها للعلم وإكرامها لطلبته:
يتحّدث العلامة محمد سالم ولد أبي المعالي في مقدمة شرحه لكتاب "قرة الأبصار في سيرة النبي المختار" صلى الله عليه وسلم، أن والده – وكان من أجلة علماء عصره – أرسله "... إلى الولية آمنة بنت يوسف التي كانت تأخذ الأطفال من أهليهم وتعلمهم القرآن - وأنا إذ ذاك في السابعة من عمري - فحفظت عندها القرآن في ثلاث سنين. ووهبت لي مصحفا وبقرتين كعادتها مع الأولاد؛ تقرئهم القرآن وتهبهم هبات سنيات وتأخذ لهم معلمين على نفقتها" ثم قال: " وكانت ذات خوارق ومكاشفات وكرامات كما أنها ذات علم لدني، ولم تخالف السنة يوما واحدا ولا تقبل مخالفتها بحضرتها. وقد أقسمت أن لا يستقر شيء من الدنيا في ملكها فوق ثلاث"
كما يتحّدث المرحوم محمد البخاري ولد محمد إبراهيم ولد أمان (من قبيلة أهل لمّحد/ الموحّد "المشهورة بالاستقامة" على حد تعبير العلامة القاضي محمد عبد الله ولد محمد موسى في رسالة من مراسلات القضاة اطلعت عليها) وهو (محمد البخاري) أحد حفّاظ القرآن في محظرة الصالحة آمنة بنت يوسف، يتحدث عن عملية "تأبيدها" للطلبة والتلاميذ، حيث تعوض للمدرّس والطالب ثم تعوض لأسرة الطالب بغية تفريغه للدارسة! ويتحّدث عن قدوم والده في إحدى سنوات دراسته للذهاب به لاحتياجه إليه؛ وحيث إن الصالحة آمنة عوضت لوالده عنه ثورا باعه بعشرين رأسا من المعز، وتركه ليكمل حفظ القرآن الكريم.
وعلى هذا المنوال تخرج في هذه المحضرة خلق كثير من حفَظة القرآن والعلوم الشرعية وحملة أخلاق التواضع والتسامح و"منفعة المسلمين" أصبحوا يسمون فيما بعد – مع أبنائها من قبائل محيطها الجغرافي - وأبنائها من بني عمومتها (أسرة أهل أمات الكريمة) وأبناء عمومتها وتلامذتها.. يسمون ويلقبون بأهل آمنة؛ اعتزازا بالانتماء لمدرستها العلمية والروحية والأخلاقية.
7 -سعيها في إصلاح ذات البين:
أما سعيها في إصلاح ذات البين، فالأحاديث فيه كثيرة متشعبة أكتفي منها بهذه القصة المعّبرة، التي أدركنا ثمراتها المباركة:
فإنه كان أحد تلامذتها من بيوتات العز والشرف في المنطقة – وهم عامة تلامذتها – يقوم على بئر أو "عقلة" حي الصالحة آمنة وتنظيم شأنه، ثم إن فتاة من بيت عتيق آخر من حيه
ومن تلامذة الصالحة آمنة كذلك - وردت إلى الماء دون مراعاة "القواعد الصارمة" التي كان يفرضها، فكان أن صدر منه بحقها ما يستدعي حنق قومها عليه وحميتهم لها – مع أن ما صدر منه لا يتعلق بفحش أو خرق لقواعد الدين أو أصول الأخلاق – فكانت مبادرة الصالحة آمنة بأن جاءت إلى أهل الفتاة في تلك الليلة طالبة يدها لتلميذها القائم على ماء الحي الذي صدر منه ما صدر بحقها، وسددت المهر وكان هذا البيت الذي أدركنا ثمرته ذرية صالحة!
8 -وفاتها:
وهكذا توفيت الصالحة آمنة بنت يوسف سنة ١٣٤٤ هـ ودفنت ببئر "اندكبعد" في إينشيري قرابة ١٧٥ كلم شمال غربي نواكشوط، وقد خلفت مدرسة إصلاحية وعلمية وروحية، تقوم على الإصلاح وبث العلم ونفع الناس، دون تعليق لتميمة أو رقية بمجهول معنى أو إعطاء ورد غير مأثور أو اعتزاز بعزاء جاهلية أو كبر.
حتى أنشد الأديب العالم مديا الفودي التندغي بشأنها في"طلعه" الشهيرات:
و الّ جاك أفمفصل يحصل ** بلي يرقع بيه المفصل
و جوارك للناس إوصل** والثقل امافق سرورك
ّعاد الخلق الا متنصل** شورك و يزورك ويدورك
وان جيت نزورك وافصل ** من ذاك ال جاك ايزورك.
رحمها الله ورفع درجاتها عنده. ورحم السلف جميعا وبارك في الخلف.
هذا وإنني أزف بشرى للباحثين والمهتمين بأنني على علم أن العلامة القاضي أحمد شيخنا ولد أمات – وهو حفيدها وابن عمها، بل عميد أسرتها المباركة اليوم حفظه الله– يكتب
مؤلفا عن حياتها وآثارها وعلاقاتها... نعلق عليه آمالا عراضا لمدنا بالمزيد عن هذه الشخصية العلمية الإصلاحية
العظيمة.
د. محمد محمد غلام