يتساءل كثيرون هنا على هذا الفضاء الأزرق: أين كتابات «الشنافي» الذي يتواتر الباحثون في مجال التاريخ الموريتاني على الإشادة بأفكاره ومرئياته وتأكيد عمقها وحصافتها؟
لقد حدّثني المؤرخ والأكاديمي البارز، صاحب التآليف الكثيرة والبحوث الثرية الوفيرة، الدكتور محمد المختار ولد السعد، وقال:
كنتُ في تونس أواسط الثمانينيات، وكان المختار ولد داداه يعيش هناك منفياً، فأخبرني أساتذتي التوانسة أنه راغب في رؤيتي.
وأصل القصة، يقول ولد السعد، أن المختار خلال فترة حكمه كان ينظِّم في دار الرئاسة حفل استقبال للبعثات التعليمية العربية الجديدة (التونسية والفلسطينية والسورية والمصرية والعراقية) القادمة إلى بلادنا، كما كان يقيم للأساتذة العرب مأدبة غداء كل عام.
وبعد الانقلاب عليه وخلال إقامته في تونس، أراد الأساتذة التوانسة أن يردوا له شيئاً من ذلك الجميل، فكانوا يزورونه باستمرار، وكان يسألهم عن جديد التأليف والنشر حول موريتانيا. وذات مرة حدّثه أحدهم عن مذكرة تخرّج حول «شرببه» أعدّها أحد طلابه السابقين في المدرسة العليا للأساتذة، فطلب تمكينه منها، وفي الزيارة التالية جاء الأستاذ بالمذكرة (الرسالة الجامعية) معه إلى الرئيس المختار وأخبره أن الطالبَ صاحبَها موجود في تونس يومئذ. وبعد أن قرأ المختار المذكرة طلب رؤية صاحبها.
يقول ولد السعد: جئته بعد العصر، وكان مقيماً في فيلا «الهادي نويره» (رئيس الوزراء التونسي الأسبق)، فوجدته ينهض من سجادة صلاته، ودار بيننا حديث دعوتُه فيه إلى كتابة مذكراته، وأوضح لي أنه بصدد تسويدها (وبالفعل سينهي المختار كتابة مذكراته وينشرها ليصبح ولد السعد أحد واضعي ترجمتها الرائعة إلى اللغة العربية).
يضيف ولد السعد: ثم بدأ يسألني عن أحوال البلد وعن بعض أصدقائه الخواص وأقربائه المقربين،
وكان أول مَن سألني عنه محمد ولد مولود ولد داداه (الشنافي)، قائلا:
وهل أصدر محمد كتاباً أم ما يزال على عادته القديمة؟
وبالطبع فهِم ولد السعد ما يشير إليه المختار وأجابه: نعم، ما يزال على سيرته القديمة؛ يؤلف كتاباً، وما أن ينتهي منه ويقرأه حتى يقوم بإعدامه، تارة لأنه لم يعجبه وتارة أخرى لأن «البحوث والدراسات في مجاله قد تجاوزته».
والحقيقة هي بالفعل ما أشار إليه سؤال الرئيس المختار (رحمه الله) ووضّحه جواب البروفوسير محمد المختار ولد السعد، إذ لم يكن الشنافي يعتبر أي مؤلَّف كتاباً، وكانت له معاييره المثالية جداً في تقييم البحوث والمؤلفات والأعمال الثقافية والفكرية،
لذا يؤْثَر عنه تعليقه الطريف على الحرب الأهلية اللبانية عشية اندلاعها في عام 1975،
حيث قال إن ثمة فائدة محتملة واحدة لهذه الحرب ألا وهي أنها ستضع حداً لسيل الكتب الرديئة المطبوعة في لبنان والتي ما فتئ يغرق بها المكتبة العربية.
لذلك لم نعثر للشنافي، وهو الذي أمضى معظم حياته في البحث والكتابة، على كتاب واحد منشور، وكل ما وجدناه له بعض الرسائل الإخوانية والمقالات والدراسات المنشورة في بعض الدوريات الأجنبية، إلى جانب مرافعته أمام محكمة لاهي حول الصحراء الغربية ممثلا لبلاده، وهي المرافعة التي تعد وثيقة مرجعية في غاية الأهمية.
وقد اتسمت كل هذه المكتوبات ببناء منهجي في غاية الدقة والكمال، وسلاسة الانتقال بين الفكرة والأخرى والمحور والآخر، والتأني في الاستنتاج وسلامة استخلاصه، وبصياغته الأسلوبية الأصيلة والقوية وشديدة الإحكام. فالشنافي يكره التكرار والإطناب وينفر من المحسنات البديعية مثل الجناس والسجع والتورية والمبالغة وكل الزوائد الأسلوبية في التعبير، مما لا يراه مناسباً للبحث العلمي.
وقد قيل لي مؤخراً إن الشنافي ترك آلاف الصفحات المكتوبة، على هيئة مقالات وبحوث وكتب، ربما لم يمهله الأجل حتى يقوم بإعدامها والتخلص منها كما كانت عادته «المفضلة» طوال حياته،
*وإن شقيقه إسماعيل (ضابط وسفير سابق، التقيتُه شخصياً وهو على مستوى عال من معرفة التاريخ الثقافي والاجتماعي والسياسي الموريتاني)* يعكف على تهيئة تلك الأعمال للنشر.
وإلى جانب ذلك فقد قام «مركز دراسات الصحراء» مشكوراً، في عام 2007، بتسجيل عشرات الساعات مع المرحوم الشنافي، غطَّت معظم اهتماماته البحثية وتصوراته حول الكيان الوطني الموريتاني، ماضياً وحاضراً ومستقبلا.
كما أن كثيراً من أفكار الشنافي ومرئياته موجودة في كتب ورسائل ماجستير ودكتوراه لباحثين موريتانيين وأجانب، حيث ظل خلال ثلاثين عاماً الأخيرة يستقبل في بيته المتواضع بقرية «عين السلامة» قرب بتلميت جموع الباحثين ويمدهم بتوجيهاته الحصيفة وأفكاره الدقيقة ومرئياته العميقة حول موضوعات بحوثهم..
لكن منهم مَن كان يشير إلى بعض ذلك في كتبه ومنهم مَن لا يفعل، ومنهم أيضاً مَن قام بالسطو على كثير من أفكار الرجل وطروحاته ومصطلحاته، مقدِّماً إياها على أنها مرئياته ومنحوتاته واجتهاداته الفكرية الخاصة به، وإن مع بعض التشويه والنفَس الانفعالي الضيق.
من صفحة: محمد المنى.