الأدب والوجدان عند أعلام الأمة

2020-12-22 07:40:00

السر في امتلاك العلامة ابن حزم لتلك الرؤية الثاقبة ،التي عبر عنها في مختلف كتبه الرائعة بطرحه المنهجي في النقد والمُقايسة ومحاورة المِلل والنِّحَل،أنه إلى جانب كتابه في الأصول :[الإحكام في أصول الأحكام] له كتابه الرائع [طوق الحمامة في الألفة و الأُلَّاف] الذي شهد له مؤرخو الأدب العالمي أنه من أروع ماكُتب في الحب في القرون الوسطى .... كما ألف ابن القيم [روضة المحبين ونزهة المشتاقين]وألف ابن عبد البر [بهجة المَجالس وأنس المُجالس] وألف الشاطبي [الإفادات والإنشادات]..... وهؤلاء من أروع علماء المسلمين فهما واستنباطا ،وقدرة على مواجهة النوازل ،وشفاء الغليل ، وتحقيق المناطات .

.
وقبلهم من السلف التابعي الجليل عبيد الله بن عبدالله ـ أحد فقهاء المدينة السبعة ـ الذي يعتبر عمر بن عبد العزيز إحدى حسناته ،مع ورعه كان أديبا رقيقا ،من شعره :
 
كتمتَ الهوى حتى أضَرَّ بك الكتمُ 
                        ولامَكَ أقــــــــوامٌ ولومهمُ ظلمُ
و نَمَّ عليكَ الكاشِـــحون ،وقبلهم 
                         عليك الهوى قد نَمَّ لو ينفع النَّمُّ
 
وكذلك عروة بن أُذينة شيخ مالك بن أنس،المشهود له برسوخ القدم في العلم والورع،ومن شعره:
إن التي زعمت فـــؤادَكَ ملّها 
           خُلِقت هواكَ و ما خُلقتَ هوًى لها
بيضاء باكرها النعيــمُ فصاغها 
             بِلَـــــــــباقَةٍ ، فأدَقَّــــها ،و أجَلّها
منَعتْ تحيتَنا ،فقلتُ لصاحبي 
            ما كان أكـــــــــــــثرها لنا وأقلها
فدَنا وقـــــــال :لعلَّها معذُورةٌ 
             في بعــــض رقْبتها،فقلتُ :لعلها.
 
ومثل ذلك الذوق الراقي في قصة سيد الزهاد أبي حازم سلمة بن دينار مع إحدى الجميلات حين تكشفت عمدا في المشعر الحرام ، وتعليق سعيد بن المسيب على تلك القصة ..حين قال " رحم الله أبا حازم ، فو الله لو كان بعض بُغَضاء العراق لقال لها : اغرُبي قبَحكِ الله ، و لكنه ظرف عباد الحجاز "
وكماهو الحال مع زاهد المدينة / مسكين الدارمي حين حمله إكرامُ أحد ضيوفه التجار على ترويج الخُمُر السود التي جلَبها التاجر لسوق المدينة و وجد أنها لا تُشكِّل موضة في تلك الأيام فقلب مسكينُ وضْعَها إلى  الرواج بأبياته:
قل للمليحة في الخمار الأسود
                        ماذا فعلت بناسك متعبد
قد كان شمر للصلاة رداءه 
                    حتى وقفتِ له بباب المسجد
ردي عليه صلاتَه و صيامَه
                         لا تقتليه بحق دين محمد.
فأصبحت فتياتُ المدينة تتبارى في اقتنائها.
 
و قد ظل علماء الشناقطة العظام يركنون إلى هذا الجانب الذوقي الجمالي الراقي في أشعارهم اللطيفة الرائقة...كما هو حال الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديا و العلامة / امحمد ولد أحمد يوره في سائر أشعاره العِذاب ، و العلامة محمد و لد الطلبه ، و الشيخ محمدو ولد حنبل و سيدي عبدالله بن احمد دامو والعلامة/ آبه ولد اخطور و العلامة الذائق عبد الحي ولد التاب في غزله و نسيبه ، و غير هؤلاء من الشيوخ و العلماء المتبتلين في محاريب العشق و الجمال .
 
ومع احترامي وتقديري وتبجيلي لسائر علمائنا الميامين اليوم ، أعتقد أن مايمكن أن يُلاحَظ من نقص ،يرجع بعضه ،إلى إهمال عوالم الوجدان ،والعواطف ،والأدب ،فالكثير منهم يكاد ـ بلسان الحال إن لم يكن بلسان المقال ـ يعطي الانطباع بأن هذه ميادينُ للآثام والسفه ،بينما كانت لأولئك الأقدمين الأفذاذ مجالا مُستباحَ الحريم ، وأعتقد أن ما نشهده من تخَشُّب الطبائع ، والتشدد في المعالجات [ الاجتماعية ـ السياسية ـ الدعوية ....] مَرَدُّه إلى غياب هذا الجانب الذوقي الجمالي ،الذي يمكن لصاحبه أن يتمتع بقيم الجمال المطلوبة منه شرعا،لتكون موعظتُه حسنةً ، وجداله حسنا،وخلقه حسنا ،وصفحه جميلا ،وهجرانه جميلا،وليُزيِّن باللطف تصرفاتِه ،وكل ذلك مطلوبٌ بنص القرآن الكريم.
و الذي نفسه بغير جمال ** لا يرى في الوجود شيئا جميلا
 .عافانا الله وإياكم.
 
      الأستاذ  الولي طه مستشار وزير الشؤون الإسلامية
 
المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122