الرائد - يبدو، حسب تحقيق الدكتور محمد المختار ولد السعد لرسائل ومراسلات الشيخ سيديا الكبير بن المختار بن الهيبه، أن الشيخ، بالإضافة إلى رسائله إلى الأمراء والأعيان والقبائل الموريتانية، كانت له مراسلات أيضا مع الوالي الفرنسي القوي ليون سيزار فيدريب، المعروف عند البيظان بـ"اميسه فدرو".
.هنا نقدم رسالة جوابية من الشيخ سيديا الكبير إلى فيديرب، يدعوه فيها إلى اعتناق الإسلام بعد نقاش موضوع الرسالة.
يقول الشيخ سيديا:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله الملك الحق العلي العظيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه ورسوله الكريم، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم على دينهم القويم.
هذا وإنه من عبد ربه الغني به سيديّ بن المختار بن الهيبه، طهر الله منه الجيب وستر العيب، وأصلح الشهادة والغيب، إلى فيديرب أمير أندَرْ الذي خفي عليه كثير من حقيقة الخبر، سلام على من اتبع الهدى وخاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى،
أما بعد، فاعلم يا فيديرب أن مكتوبك وصل إلينا وقدم به حامله إلينا فنظرنا فيه، فإذا هو مشتمل على أسلوب من الكلام لم يواجهنا به قبلك أحد من الأنام، لما فيه من الجرأة والتوعد بالانتقام إن لم نرد إليك ما نهبه أولاد أحمد من مالك ومال عيالك، لزعمك وقولك في مكتوبك إن أولاد أحمد ينتمون إلينا، ويطيعوننا ونحن ننصرهم، وهذا خطأ منك وجهل لحقيقة ما بيننا وبين أولاد أحمد، فنحن قبيلة من الزوايا وأولاد احمد قبيلة من بني حسان، والزوايا وبنو حسان فريقان متباينان في الديانة والطبيعة والأمانة، فلا تصلح حقيقة الانتماء والطاعة والنصرة من أحد الفريقين، لكن قد يوجد بينهما إظهار المصادقة والنصرة بالقول لا بالفعل من كل منهما للآخر. ويوجد من بني حسان طلب البركة والحجاب عند الزوايا، وقد يقع وجوب الصدقة والهدية منهم لبعض الزوايا، وتقع المداراة لبعض بني حسان من بعض الزوايا. وهذا كله لا يسمى بالانتماء ولا بالطاعة ولا بالنصرة حقيقة لأنه لا يلغ مبلغا يحمل أحدا من بني حسان على قبوله، ولا بعض الزوايا أن يفعل في ما بيده كل ما يريده لاسيما في مثل استرداد غنائمهم ومنهوباتهم من أموال أعدائهم المعادين لهم في الأموال والأبدان، وأحرى منهم المعادين لهم كذلك في الأديان. وهذا هو الحق الذي لا غبار عليه ومن يقل سواه فلا عبرة بقوله ولا يلتفت إليه، لأنه من الأمور البينة الجلية التي يعلمها الخاص والعام والرفيع والوضيع من البرية. فنحن وغيرنا من الزوايا لا يد لنا على بني حسان، فلو كانت لنا عليهم يد أو كانوا يسمعون أو يطيعون لنا في جميع ما نأمرهم به وننهاهم عنه لتركوا الانتهاب والإغارة على غيرهم من السودان المسلمين وأهل العهد من أهل الكتاب الكافرين، لأن أهل العهد تحرم دماؤهم وأموالهم وأعراضهم ما لم ينقضوا عهدهم مع المسلمين. وقد نهينا الكثير من سفهاء بني حسان عن ذلك فلم يسمعوا ولم يطيعوا واستمروا على ذلك ولم يرجعوا والعياذ بالله تعالى من الظلم وارتكاب كبائر الإثم إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
ثم إذا تبين لك يا فيديرب، أمير أندر المغيب عنه كثير من الخبر، ما ذكرناه من أحوال بني حسان وعدم طاقة الزوايا على التصرف في ما بأيديهم وما نهبوه من أعدائهم، وأن ما واجهتنا به من الجرأة وسوء الآداب بعيد عن سبيل العدل ومصادفة الصواب، لزمك الرجوع على نفسك بالملام والانتقام بسبب ما ارتكبته من الخسة وقبائح الآثام، ولزمك أيضا أن تجتهد في ما يصفي خواطرنا وخواطر تلامذتنا عليك وعلى كل من كان ينتمي إليك، لأن الأمراء يأنفون عن كل ما فيه مذمة ويجتهدون كل الاجتهاد في اغتنام الخصال المهمة ويحجزهم كمال عقولهم عن ارتكاب ما يوجب انحطاط المراتب (...).
ثم لتعلم يا فيديرب أنك إذا أخذ الله بناصيتك ومجامع قلبك لتصديق ما ذكرناه في هذا المكتوب، وسالمتنا وسالمت جميع تلامذتنا وجميع المسلمين المتعاهدين مع النصارى في هذه الأراضين ما داموا على العهد وانبرام العقد، توجهنا إلى الله تعالى وسألناه أن يهديك ويرشدك إلى الوجه الذي يصرف عنك أشأم الرذائل والنقم، ويسوق إليك أعظم الفضائل والنعم. وما من ذي عقل سليم ورأي مستقيم إلا وهو يعلم أن أشأم الرذائل والنقم هو الكفران والعصيان، وأن أعظم الفضائل والنعم هو الإسلام والإيمان والإحسان، وأنت إن كنت من العقلاء الذين تأبى لهم عقولهم إلا أن يحبوا أنفع الأشياء ويبغضوا أضر الأشياء، فأعِنّا على نفسك بالانقياد إلى ما نريده لك من أنجع المراد وذلك بأن تنظر بنور عقلك فيما بين الإسلام والكفر، فيتبين لك أن الإسلام خير من الكفر، لأنه نافع والكفر ضار، إذ الإسلام يوجب الخلود في النعيم المقيم، والكفر يوجب الخلود في العذاب الأليم، والعاقل يمنعه عقله من اختيار الضار الذي يوافق هواه عن النافع الذي يخالف هواه (...) وإذا علمت هذا علم اليقين واستنار به قلبك، واطمأنت له نفسك، وانشرح له صدرك، فاعلم أن فضيلة الإسلام قد أظلتك وأن رذيلة الكفر قد أدنى دفاعها عنك، وحينئذ فاعلم أنا ندعوك إلى الاسلام ونأمرك به أمرا جازما لتنجو من النار وتخلد في الجنة خلودا ملازما، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فاسلم تسلم، ويؤتك الله أجرك مرتين، وتفز عنده بما فيه لك قرة العينين، وانبذ عنك شهادة الكفر بدخانه، واستضئ بضياء دين الله تعالى: إسلامه وإيمانه وإحسانه تتحف بمغفرته سبحانه لجميع ما مضى من ذنوبك، لأن الإسلام يجب ما قبله (...).