تساؤلات عديدة تطوف بأذهان البعض عن مستقبل الصناعات الاستخراجية الموريتانية في ظل جائحة كورونا وما بعدها، والتأثيرات المحتملة على استخراج الغاز الذي كان مقررا في هذه الفترة، وهل سيتأخر الحلم الموعود بأن تصبح موريتانيا دولة مصدرة لتلك الثروة الثمينة؟، وكيف يمكن أن تستفيد من ارتفاع أسعار الحديد والغاز،في ظل الطفرة التي يشهدها الاثنان حاليا؟
.” الاقتصادي الموريتاني” قرر فتح تلك الملفات ووضع تلك التساؤلات أمام خبير الموارد الجيولوجية والمتابع للملفات الاقتصادية الكبرى الدكتور يربان الحسين الخراشي، وتحاورنا معه حول ذلك وحول الآفاق المحتملة لانعكساته على الاقتصاد الوطني.
الاقتصادي: كيف ترون واقع الصناعات الاستخراجية في موريتانيا، وما هي أهم المشاكلات البنيوية التي يعانيها القطاع؟
الدكتور يربانا الحسين الخراشي: في الحقيقة، ما دمنا بعد 60 عاما من الاستقلال، ما نزال نتحدث عن واقع الصناعة الاستخراجية، ولم نتقدم قيد أنملة إلى الأمام نحو الصناعة التحويلية، التي تخلق قيمة مضافة أكبر، وفرص عمل أكثر، وإيرادات أفضل؛ فهذا وحده يكفي كتشخيص للفشل الذريع في تثمين مواردنا المعدنية، وحتى غير المعدنية.
الصناعة الاستخراجية في بلادنا تعاني من مشاكل بنيوية، وقد نكون بحاجة إلى إصلاحات وعصرنة الإطار التشريعي والتنظيمي للقطاع، واتخاذ المزيد من الشفافية في منح رخص الاستكشاف والاستغلال، بالإضافة إلى إدخال نشاط التعدين التقليدي للذهب في الدورة الاقتصادية الوطنية، واستخلاصه بطرق أقل تأثيرا على البيئة والصحة، مع تطوير الاستثمار الوطني في القطاع، والقطاعات المرتبطة به.
ومهما يكمن من أمر، فإن عائدات هذا القطاع ما تزال دون المطلوب، بل إن القطاع حتى الآن لم يلعب أي دور مهم في الحد من الفقر، وتعزيز الرخاء المشترك، والقضاء على الفوارق الاجتماعية؛فقطاع الأنشطة الاستخراجية يساهم بأقل من 2% من إجمالي فرص العمل في الوطن، وحوالي 9% في تكوين إجمالي الناتج الداخلي الخام منذ سنوات.وهذه المساهمة المتدنية اقتصاديا واجتماعيا للقطاع، هي واقعه الرئيسي الذي يهمنا كمواطنين ومتابعين.
هذا الواقع، هو نتيجة حتمية للاختلالات البنيوية، وغياب الشفافية في التسيير منذ عقود؛ فرغم الترويج لموريتانيا كبلدالمليون فرصة استثمار، وألف مؤشر معدني، إلا أنها أيضا، بلد المليون وسيط، وألف تناقض.
وخلاصة القول إن الصناعة الاستخراجية ترسم معادلة تجعل اقتصادنا ومستقبلنا كله تحت رحمة تقلبات أسعار المادة الخام في السوق الدولية، وهذا ما علينا السعي إلى تغييره بالتحول إلى الصناعة التحويلية، لتعزيز الاستقلال الاقتصادي، وخلق عائدات وفرص عمل أكثر.
الاقتصادي : ما مدى تأثر مشاريع الغاز في موريتانيا بجائحة كورونا، و ما هو السقف الزمني الذي يمكن أن تعود فيه إلى سكتها؟
الدكتور يربانا: تكبدت شركات الطاقة خسارة كبيرة بسبب تسييس النفط، واستخدامه كسلاح ضد المنافسين المختلفين عالميا، وقد تراجعت أرباح شركة النفط البريطانية بي بي BP40% في الربع الثالث من 2019، بسبب هبوط أسعار النفط، قبل تفشي كورونا.
ومع بداية العام الجاري، وبعد انتشار الوباء، تفاقم ركود النشاط الاقتصادي العالمي بصورة أشد،وخسرت الشركة في الربع الأول وحده من العام الجاري 4.4 مليار دولار؛ مما قادها إلى تبني أسباب القوة القاهرة لتأخير استلام منصة الغاز الطبيعي المسال العائمة “جيمي” إلى سنة 2023.
وبالمقارنة مع النفط، فإن انخفاض أسعار الغاز الطبيعي عالميا أقل دراماتيكية، ومع ذلك تم تأخير حوالي 20 مشروعا من مشاريع الغاز الطبيعي المسال حول العالم، غالبيتها في إفريقيا، حيث تشير التوقعات إلى تخمة في المعروض من الغاز المسال قد تصل مع نهاية العام إلى أكثر من 50 مليون طن.
وفي الآونة الأخيرة شهدت أسعار الغاز الطبيعي المسال في آسيا ارتفاعا بنسبة 20%، بعد انتعاش الطلب في الدول المستوردة الرئيسية: الصين، وكوريا الجنوبية، واليابان. لذلك نعتقد أن تأثير جائحة كورونا سيكون قصير المدى؛ فالغاز الطبيعي ينحو إلى أن يكون سلعة أكثر عالمية، وربما قد حان الوقت لفك ارتباط تسعيره بالنفط، وخلق سوق عالمية تخضع للمتغيرات الاقتصادية أكثر مما تخضع للمتغيرات السياسية.
وقد برزت تقنية المنصات العائمة (FLNG) كطريقة مجدية تقنيا واقتصاديا لإنتاج الغاز من الأماكن التي لم يكن بالإمكان الوصول إليها سابقًا. ويتعين على شركة بي بي – الرائدة عالميا – أن لا تتخذ من جائحة كورونا مظلة وذريعة لقتل حلم الشعب الموريتاني، كما أنه عليها أن تعمل على تسريع وتيرة تنفيذ المرحلة الأولى من المشروع، ودراسة إعلان القرار النهائي للاستثمار للمرحلتين 2 و3، وكذا تفادي المزيد من التأخير الذي يعتقد البعض أنه قد يمتد حتى أفق 2025.
الاقتصادي : كيف تفسرون مفارقة الارتفاع الحالي لأسعار الحديد، رغم تضرر النشاط الاقتصادي العالمي برمته من الجائحة؟
الدكتور يربانا : انفجرت أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد مطلع السنة الجارية، تزامنا مع عطلة عيد الربيع الصيني التي تستغلها مصانع الصلب لإجراء الصيانة اللازمة سنويا. حينها، كانت أسعار خامات الحديد في حدود 95 دولارا للطن حسب مؤشر بلاتس، ومع بداية انتهاء العطلة منتصف فبراير المنصرم، كان الذعر العالمي – خاصة داخل الصين (صاحبة السوق الأكبر عالميا حيث تستورد أكثر من مليار طن سنويا) – قد أدى إلى انخفاض الأسعار إلى حدود 80 دولارا للطن.
ومع بداية مارس أعلنت الصين عن الانتصار على الوباء والتحكم فيه، وبدأت بتنفيذ سياسة تنشيط اقتصادها، و تسريع وتيرة عودة الإنتاج. وخلال الشهرين الأخيرين كسرت الأسعار حاجز الـ 100 دولارا للطن.وقد كنت توقعت هذا الحدث في مقال سابق بعنوان “السيناريوهات المحتملة لمستقبل أسعار خامات الحديد”، وأنا اعتقد أن ارتفاع الأسعار بواقع 30% خلال الشهرين الأخيرين يعود إلى تداخل الأسباب الأربعة التالية:
أولا- : تفاقم الوضع الوبائي في البرازيل التي تستحوذ على حوالي 23% من إجمالي الإمدادات العالمية من خامات الحديد، وتأثير ذلك على حجم شحناتها من الخامات،فقد تخطى عدد الإصابات المؤكدة بفيروس كورونا المستجد 600 ألف إصابة، وهذا ما أدى – حتى الآن – إلى إغلاق ثلاثة مناجم، وانخفاض حجم الصادرات – في مايو- بواقع 28% كما أن معدل الشحنات الأسبوعي، انخفض من 6.5 مليون طن إلى 4.5 مليون طن.
ثانيا-: انخفاض المخزون على مستوى الموانئ الصينية، بسبب زيادة الطلب على المادة الخام، بعد بدء تنفيذ خطة إنعاش الاقتصاد الصيني، التي تتضمن ضخ 1.2 تيرليون يوان في مشاريع البنية التحتية. وقد بلغ حجم المخزون على مستوى 45 ميناء في الصين حوالي 107 مليون طن، وهو أقل بكثير من 132 مليون طن،أيمستوى المخزون في نفس الفترة من 2019.
ثالثا-: إقبال المضاربين على شراء العقود الآجلة لخامات الحديد في بورصة داليان الصينية؛ فخلال شهر مايو المنصرم وحده، بلغت المبالغ المتداولة 6.3 مليار يوان.
رابعا-: تصاعد الحرب الكلامية بين أستراليا والصين على خلفية منشأ فيروس كورونا، و خصوصا أن أستراليا تعد أكبر المصدرين لخامات الحديد؛ إذ تصدر للصين – وحدها -حوالي 650 مليون طن سنويا.
هذه العوامل الأربعة أعلاه، هي السبب في الصعود الأخير المؤقت للأسعار، والذي نعتقد أن دائرة اتساعه خلال ما تبقي من السنة، مرتبطة بدرجةانحسار الوباء زمنيا وجغرافيا، ومدى تأثير ذلك على نقص الإمدادات، خاصة من البرازيل، وكذلك مستوى انتعاش صناعة الصلب في الصين،وكذا درجة تقلص تلك الصناعةفي أسواق الصين الثلاثة الكبرى خارج الصين،(أوروبا، و اليابان، وكوريا الجنوبية)، والتي تعتمد على استيراد المادة الخام.
أما بخصوص تأثير ارتفاع الأسعار على الاقتصاد الوطني، ومساهمته في الحد من العجز المتوقع في الميزانية خلال العام الجاري، فنعتقد أنه إذا استمرت الأسعار في مسارها التصاعدي، وحافظت على متوسط معدل سنوي فوق 90 دولارا للطن في ظل تحديد هدف الشركة للسنة 2020 في مجال المبيعات والإنتاج 13 مليون و 500 ألف طن من خامات الحديد، في هذه الحالة، لا نستبعد تحقيق وضعية تشبه سنوات الفترة الذهبية، حيث كانت مساهمة اسنيم في الميزانية تصل إلى حوالي 12 % .
الاقتصادي :ما هو مستقبل السوق العالمي لخامات الحديد ما بعد كورونا، وكيف لنا أن نستفيد من الوضعية الجديدة؟
الدكتور يربانا: يبدو لي أن كورونا يخضع السوق العالمي لخامات الحديد لاختبارات غير مسبوقة، حيث أثرت الأزمة على مختلف مراحل صناعة الحديد والصلب العالمية، ومنذ يناير المنصرم أكملت مجموعة باوستيل الصينية، وشركة Vale البرازيلية، ومجموعة BHP Billiton الأسترالية ومجموعة Rio Tinto ، تسويات باليوان، وهو مايعني إقبال الشركات الكبرى على التسوية بالعملة الصينية اليوان في تجارة المادة الخام.
وهذا يعني أكثر أنهم يشعرون بخطر إمكانية فقدان حصتهم، لذلك يتهافت الجميع على البيع بالعملة الصينية، سعيا للحفاظ على الزبناء قبل زيادتهم وتنويعهم في السوق الأكبر عالميا. كما أنه هناك اتجاها عالميا لرقمنة التجارة العالمية لخامات الحديد؛ حيث أنشأت الصين منصة العقود الذكي (ICP)، التي من خلالها تم إجراء صفقة لعملية بيع لخامات الحديد بين ريوتينتو وشركة صينية محلية، وهو ما قلص مدة إنشاء وإصدار وإقرار عقود بيع المادة الخام من عدة أيام إلى أقل من ساعتين.
رقمنة تجارة خامات الحديد، تلغي نهائيا دورالوسيط المحلي والدولي الذي في حالة شركة اسنيم يستحوذ على نسبة معتبرة، يعتقد البعض أنها في مراحل معينة كانت أكثر مما حصلت عليه ميزانية الدولة من اسنيم.
انتشار الوباء عزز أيضا من التوجه العالمي إلى المناجم الذكية؛ حيث بات من الواضح أن الوضع الوبائي ليس له تأثير ملموس على عمليات الإنتاج في أستراليا أكبر المصدرين، نظرا للدرجة العالية من تحقيق المكننة في مناجمها؛ فمع وجود الشاحنات ذاتية القيادة، وحتى قطار نقل الخامات ذاتي القيادة كان الدور البشري محدودا، وبالتالي لم يتأثر الأستراليون، عكس ماحدث في دول أخرى مثل جنوب إفريقيا والهند والبرازيل.
التوجه العالمي إلى التسوية بالعملة الصينية وحسب المؤشر الصيني، ورقمنة التجارة العالمية لخامات الحديد، ومكننة المناجم، صاحبتها دعوة المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني إلى تسريع وتيرة تنفيذ استراتيجيتها، التي تستهدف تقليل الاعتماد على خامات الحديد المستوردة والتي ترتكز على ثلاثة محاور رئيسية هي:
المحورالأول: الرفع من الإنتاج الوطني من خامات الحديد والحفاظ على مساهمة السوق الداخلي الصيني في مستوى أعلى من 20% من إجمالي الطلب الصيني على المادة الخام، أي حجم إنتاج أكثر 220 مليون طن سنويا.
المحورالثاني: تسريع وتيرة إحلال الخردة، كبديل للاستغناء عن خامات الحديد المستوردة. وفي هذا السياق، ذكررئيس رابطة الحديد والصلب الصينية أنه حسب بيانات مكتب الهيئة الدولية لإعادة التدوير (BIR) ، فإن نسب الاعتماد على الخردة لصناعة الصلب سنة 2019 في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، واليابان أكثرمن 70٪ و 50٪ و 30٪ على التوالي، بينما تصل هذه النسبة إلى 21.67% في الصين، وذلك رغم مرور خمسة سنوات على بداية تنفيذ استراتيجية الصين الهادفة إلى وصول الاعتماد على الخردة إلى حوالي 30% في أفق 2025؛ وهو ما يعني استغناء الصين عن حوالي 100 مليون طن من الخامات المستوردة.
المحورالثالث: تعزيز التعاون مع الدول المنتجة لخامات الحديد غير أستراليا والبرازيل، وذلك من أجل كسر هيمنة هذين البلدين على هذه المادة الاستراتيجية، خاصة أستراليا؛ وهذا ما يجعل من مناجم الحديد لدول مثل الهند، وجنوب أفريقيا، ومنغوليا، وموريتانيا، والسيراليون، وغينيا، وليبيريا، تحت مجهر صناع الاستراتيجية الصينية؛ وهو ما يفتح لنا المجال للتوجه شرقا.
وهذه فرصة للتذكير بالمطلب الذي اقترحته منذ 2015، وذكرت به سابقا في عدة مقالات، ألا وهو اقتراحي على شركة اسنيم فتح ممثلية جديدة لها في الصين، على غرار ممثليتها الوحيدة في فرنسا والتي لم يعد لوجودها أي مبرر تجاري، ويكلف الشركة سنويا ميزانية معتبرة.
هذه الخطوة ستمكن اسنيم من ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد:
أولا : تتيح لشركة اسنيم تحسين الخدمات المقدمة لزبنائها في الصين وتنويع عملائها هناك؛
ثانيا : تفتح المجال أمام اسنيم للانفتاح أكثر على السوق الآسيوي الواعد، خاصة سوق مجموعة الآسيان والهند.
ثالثا : إتاحة إمكانية البيع بالعملة الصينية ( يوان) ، خاصة بعد أن ضُمت هذه العملة إلى سلة عملات الاحتياط التابعة لصندوق النقد الدولي. ولست بحاجة للتذكير بأن الصين هي أكبر شريك تجاري لبلادنا، وقد تحولت من أكبر مساهم في تنامي الفائض التجاري لصالح بلادنا إلى أكبر مساهم في الحد من تفاقم العجز التجاري الإجمالي الوطني؛ حيث تشير البيانات الرسمية الصينية إلى أن حجم التبادل التجاري بين البلدين سنة 2013 بلغ حوالي 2.34 مليار دولار، مع تحقيق فائض في الميزان التجاري لصالح بلادنا بلغ حوالي 1.14 مليار دولار.
لكن في سنة 2018، وبعد انهيار أسعار خامات الحديد عالميا، تناقص حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى حوالي 1.988 مليار دولار، مع تسجيل عجز في الميزان التجاري بقيمة 176 مليون دولار.
إن تعزيز التعاون في مجال استكشاف واستغلال وتصدير الحديد الخام – الذي من الواضح أن الصين في أمس الحاجة إلى تنويع مصادرها منه، وقطع الطريق أمام استراليا والبرازيل للتحكم في مصير هذه السلعة الاستراتيجية، خاصة في ظل بلوغ إجمالي حجم صادرات العملاقين حدا لايطاق حوالي 85% من إجمالي واردات الصين منه – قد يكون مطلبا صينيا، قبل أن يكون هدفا موريتانيا..
الهدف الذي قد يمكن شركة اسنيم من تحقيق حلمها بالانضمام إلى الخمس الأوائل لمصدري خامات الحديد في أفق 2035. بل إن تعزيز التعاون مع الصين في هذا المجال قد يكون سببا في جلب وتوطين صناعة الصلب في بلادنا، خاصة في ظل سياسات الصين الهادفة إلى تحسين مؤشرات جودة المناخ بغلق مصانع الصلب، وكذلك التزامها بالمساهمة في التحول الصناعي للدول العربية والإفريقية، مما سيخلق عشرات الآلاف من فرص العمل، بالإضافة إلى خلق عشرات الفرص الاستثمارية ذات القيمة المضافة للاقتصاد الوطني في القطاعات المغذية لهذه الصناعة.
سيضمن التوجه شرقا – على الأقل – الحفاظ على حصتنا، بل مضاعفتها في السوق الصيني في ظل توجه الصين إلى نقص الاعتماد على الخارج، كما سيساعدنا على تقليل خطر المنافس الجديد في المنطقة منجم سيماندو الغيني، وتخفيف الضغط على احتياطيات البنك المركزي من الدولار.
الاقتصادي : شهدت أسعار الذهب ارتفاعا قياسيا في الفترة الأخيرة، كيف تنظرون إلى هذا الارتفاع، وهل يمكن التعويل عليه محليا؟
الدكتور يربانا : نعم، لقد لوحظ ارتفاع في أسعار الذهب تزامنا مع تفشي وباء كورونا، والحقيقة أن الأسعار بدأت ترتفع منذ إعلان الحرب التجارية بين أمريكا والصين سنة 2018، إذ من المعروف أن التوترات تعزز الطلب على أصول الملاذ الآمن؛ والذهب يعد أحد أصول الملاذات الآمنة في أوقات الأزمات، والارتفاع الأخير في الأسعار تعزز أكثر بعد إعلان الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، والبنوك المركزية العالمية عن خفض الفائدة؛ حيث أصبح الذهب ذا جاذبية أكبر، و ارتفعت أسعاره إلى حدود 1730 دولارا للأونصة.
وهنالك توقعات متفائلة بأن تصل الأسعار إلى حدود 1920 دولارا للأونصة، قبل نهاية العام الجاري. هذا من جهة الأسعار،أما بخصوص تعويل موريتانيا عليه؛ فالجواب يبدأ طبعا بالتأكيد على وجوب السعي بكل الجهود إلى زيادة إنتاج موريتانيا من الذهب بشقيه الصناعي والتقليدي، خاصة التعدين التقليدي للذهب، الذي دعونا – أكثر من مرة – إلى تبني خطة عمل استراتيجية واضحة المعالم في مجاله، تستهدف إدخال هذا النشاط في الدورة الاقتصادية الوطنية، واستخلاصه بطرق أقل تأثيرا على البيئة وعلى صحة المواطنين.
وذلك بالإضافة إلى القيام ببرامج للتوعية والتثقيف الصحي والأمني للمنقبين في مناطق التعدين التقليدي، فهذا النشاط له تأثيرات إيجابية كثيرة، ومهمة، خاصة خلال هذه الظرفية العالمية التي تتسم بتعثر اقتصادي كبير،ومخاطر صحية واجتماعية.
ومن أهم هذه التأثيرات الإيجابية للنشاط التعديني التقليدي :
1 خلق فرص عملمعتبرة للمواطنين، خاصة فئة الشباب الذين تنتشر بين صفوفهم البطالة بشكل كبير؛
2 يخلق فرصة للبنك المركزي الموريتاني في أن يشتري كميات معتبرة من الذهب بعد غلق السوق السوداء، بسبب الإجراءات العالمية المتخذة لاحتواء الوباء،بحيث يشكل احتياطا لبلادنا، أو يتم تصديره لتعزيز احتياطياتنا من العملات الأجنبية، كما يساهم في زيادة الناتج المحلي الإجمالي والإيرادات العامة للدولة؛
3 يساهم في توفير مؤشرات جيولوجية أكثر عن المنطقة التي يتم فيها التعدين التقليدي؛
4 تساهم مواقع التعدين التقليدي للذهب بقوة في تقوية اللحمة الوطنية بين مختلف فئات المجتمع؛
5 يساهم بطريقة غيرمباشرة في تأمين المناطق التي يتم فيها هذا النوع من الأنشطة – خاصة في هذه الظرفية التي يهتم فيها الجيش بالتركيز على تأمين الحدود من المتسللين؛
6 يساهم مساهمة معتبرة في الحملة الوطنية للحد من انتشار الوباء؛ فالمنقبون معزولون عن العالم الخارجي، وإن تم اتخاذ الاحتياطات اللازمة فقد نحافظ على منطقة التعدين التقليدي خالية من الوباء.
الاقتصادي :أين النفط، وهل بالفعل نضبت مواردنا منه؟
الدكتور يربانا : بدأ إنتاج النفط من حقل شنقيط الواقع في مياه الأطلسي على بعد حوالي 65 كلم، قبالة الشواطئ الموريتانية سنة 2006، وكان من المتوقع أن يصل الإنتاج إلى مستوى 75 ألف برميل يوميا، خلال العام الأول، لكن للأسف بقي الإنتاج في مستوى أقل بين 50 و 60 ألف برميل يوميا، وبعد ذلك بسنوات انخفض مستوى الإنتاج إلى حدود 30 ألف برميل لليوم، ثم حوالي 6 آلاف برميل لليوم أواخر 2016، مما دفع – في نهاية المطاف – شركة بتروناس الماليزية، والدولة الموريتانية إلى إغلاق الحقل سنة 2017.
حاليا نتائج المسح الزلزالي والآبار التنقيبية في الحوض الساحلي تؤكد اكتشافات هامة من الغاز، الذي يصاحبه النفط عادة في المكمن، لكن الرهان الأكبر ينصب على حوض تاودني الرسوبي الذي يشغل حوالي نصف مساحة البلاد، وهناك مؤشرات أولية جيدة توحي بوجود كميات تجارية معتبرة قد يكون استغلالها مستقبلا ذا مردودية اقتصادية، خاصة إذا ما تحسنت الأسعار، وتمت حلحلة الكثير من المشاكل الجيوسياسية على الساحة الدولية، والتي يستخدم النفط فيها كسلاح فتاك.
الاقتصادي : بشكل عام كيف تقيمون الوضعية الاقتصادية للبلد، وهل ترون أننا قادرون على الخروج بسرعة من هذه الأزمة الراهنة؟
الدكتور يربانا: لا شك أن جائحة كورونا، وما صاحبها من عمليات إغلاق، وتوجه عالمي إلى اللاعولمة، وإقفال الحدود، والاقتصاد الانعزالي، وجه ضربة قاسية للاقتصاد العالمي بشكل عام، ولا سيما البلدان الأقل نموا، لكن للأسف لست اقتصاديا حتى أقيم الوضعية الاقتصادية لبلادنا، ومع ذلك اعتقد أننا قادرين على الخروج من الأزمة وبسرعة، إذا ما ركزنا بشكل أكبر على إيجابيات الجائحة، ووظفنا مميزات القوة الكامنة في بعض القطاعات من أجل خلق نمو سريع. بل إن الأمر أكبر من ذلك؛ فالعالم مقبل على تغيرات دراماتيكية لسلسلة الإمداد العالمية، والتجارة العالمية، وكذلك سوق رأس المال العالمي، وهو ما قد يتيح لنا الفرصة للبحث عن موطئ قدم في عالم ما بعد كورونا، أحسن من موقعنا الحالي في قاع السلسلة الصناعية، كدولة مصدرة فقط للمادة الخام.علينا أن نغتنم فرصة تشكل عالم ما بعد كورونا، وأن نسعى بكل جهد في ذلك الاتجاه.
تغيير معادلة مستقبلنا مرهون بأسعار المادة الخام، بالتقدم إلى الأمام نحو الصناعة التحويلية، التي تخلق قيمة مضافة أكبر، وفرص عمل أكثر، وإيرادات أفضل، مما سيساهم في بناء اقتصاد مزدهر ومتنوع. وهذا ما سيمكننا في نهاية المطاف من كسب رهان التنمية المستدامة الشاملة، عن طريق تطوير ثرواتنا المتجددة (الثروة السمكية والحيوانية والزراعية)، والرفع من أدائها في اقتصاد بلادنا، حتى تصبح هي المحرك الأساسي لنموه بصورة مستدامة وشاملة، وبذلك تتحقق النهضة التنموية التي تحافظ على التوازنات الاقتصادية الكبرى، وتضمن مزيدا من الانتقال إلى اقتصاد منتج، مع مراعاة حفظ التناغم بين أبعادها الاجتماعية والاقتصادية، بشكل ينعكس بطريقة إيجابية وفورية على تشغيل الشباب.
وخلاصة القول،إن اقتصادنا يئن ما بين مطرقة الوباء وسندان الفساد، الذي نخر كل دعاماته، وحتى لا نخرج من الجائحة أكثر إنهاكا وإفلاسا،علينا تغيير طريقة تفكيرنا إزاء الجائحة؛ باعتبارها أزمة صحية، مهما بدت مؤلمة فإنها تنطوي على فرصة اقتصادية وجيوسياسية لصالحنا،ويمكننا الاستفادة منها إلى أبعد الحدود.
نواكشوط- موقع الاقتصادي/ أجرى الحوار : محمد الكبير ولد السيد