بيْنما كنْت أسْتمِع لنقلٍ مباشرٍ لمباراةٍ في كرة القدم جمعتْ بيْن "زامبيا" و "بركينا - فاصو" ضمْن الدّور الأوّل لكأسِ إفريقيا للأمم, فإذا بِي أجِد ردّا شافيّا على سؤالٍ يراودني منذ أيّامٍ عن حقيقة الموقف الموريتاني من الحرب على مالِي,
.
وحقيقة دورها, وهلْ هي مشاركة في الحرب أمْ هي رافضة لها؟ وما هي حقيقة أمْرِها؟ لأنّ موْقفها ما انْفكّ يشوبه الغموض في نظرِي منذ بداية الأزْمة.
أحْيانا أقول في نفْسي, إنّ موريتانيا خارِج هذه الحرب بدليل أنّها لمْ ترسل جنديّا واحدا إلى مالي, ولم يصْدر عنها تصْريح واحد أو بيان يشِي بأنّها تعْتزِم المشاركة...فهي لا تريد الحرْب, و تخْتار النّأْي بنفْسها ...لذلك, تخلّتْ عنْ ملاحقةِ مرْتكبي جريمة قتْل الدّعاة الموريتانيين خوْفا منْ أنْ تكون ملاحقتهم سببا لنشوب حربٍ, وتقاعستْ عنِ الرّعايا الموريتانيين و تركتْهم و ممْتلكاتهم يواجهون السّلب والنّهْب, أيضا مخافة الحرب .
و أحْيانا أقول... لا؛ إنّها مشاركة في الحرْب لِكوْنِها لمْ تتّخِذْ قرارا واحدا, ولمْ تصدِرْ بيانا واحدا يندِّد بالتّدخلِ الفرنسي أو يشْجبه , أو يدينه...بلْ على العكْسِ من ذلك, فتحتْ سماءها, و أغْلقتْ أرْضها, و سخّرتْ مخابراتِها للحرْب, و هي وحْدها التِي تعْرف لغة السّكان في شمال مالي, وتعْرف عشائرهم و بيوتهم و عاداتهم و أعرافهم, إلخ...ثمّ ما لبِثتْ أنْ قامتْ بمطاردةِ و اعْتقالِ أشْخاصٍ لمجرّدِ الاشتباهِ في انْتمائِهم لتيّاراتٍ فِكريّةٍ و سيّاسيّةٍ مناوئةٍ للحرب...
ومن هنا, اخْتلطتْ علىّ الأوراق و التبست الأمور...و وجدْت نْفسي تائِها أمام مشهديْ المشاركة في الحرب من جهة, و عدم المشاركة فيها من جهة أخرى...و بدأت أتساءل في نفْسي , هلْ هناك فارق موضوعي أو حاجز حقيقي يفْصل بيْن المشاركة و عدمها ؟ و هلْ هناك موقع يجمع بيْن المشْهدين ؟ و كيْف يكون ذلك ؟ ظللت على هذا الحال حائِرا و متردِّدا لأكْثر من أسْبوعٍ إلى أن استمعْت لِنقْل معركةِ "زامبيا" و "بركينا – فاصو" ...وجدْت الجواب من وحيِ كرة القدم...
وجدْت أنّ المدرّب يستدعي للمعْركةِ فريقا مكوّنا من 22 لاعبا , نِصْفهم فقط يدْخل الميْدان و يباشِر اللّعِب, و النِّصْف الآخر يبْقى في الاحْتِياط, خارِج الملعب ...لكنّه واقِف على خطّ التّماس,و مشارِك في المباراة عبْر المشورةِ و إبْداءِ الرّأي و إسْداءِ النّصْح... وعنْد الاقْتضاء, يدْخل السّاحة و يباشِر الصّراع. و قدْ يكون من بيْن لاعبي الاحتياط لاعبين أساسيّين يخْتزِنهم المدرّب على أنْ يزجّ بِهم في الوقت الذي يراه مناسِبا حسب تطوّر الأوْضاع داخِل الملْعب...
و وجدْت كذلك أنّه قد يخْتزِنهم لِسبب الإصابة ( "الصّديقة" ) وعدم اللِّياقة , أو لِكسْب قِسْطٍ مسْتحقٍّ من الرّاحة بعْد المشاركة في تصفيّاتٍ قاسيّةٍ للفوْز بكأسٍ غاليّةٍ ( مثل كأس "جرْمانو", ونحْوِها ), أو لسبب جفاءٍ معْلومٍ أوْ تعارضٍ مشْهودٍ مع بقيّةِ اللاّعبين ( مالي, بركينا- فاصو, ساحل العاج, السينغال, النيجر...), أوْ لِصعوبةِ مِزاجِ اللاّعب و تقلّبِه, وذلك حِرْصا على سلامة الجوّ داخِل الفريق, والسّهر على وِحْدته و انْسجام صفوفه...
وبالعودة إلى موضوعنا, موضوع الحرب على مالي, لقد تبيّن لي أنّ مدرّب فريق الحرب "فرنسوا هولاند" شكّل فريقه (22 لاعبا ) ووزّع الأدْوار لِكسْب الشّوْط الأوّل من المباراة....لاعِبون دخلوا الميدان , و آخرون بقوا في الاحتيّاط...ولأنّ "هولاند" يدْرِك تمام الإدراك بأنّ الحرب ستطول وبأنّها ستحْتاج - لا محالة - لأشواطٍ إضافيّةٍ و ضرباتِ جزاء, وربّما أكْثر من ذلك...لِجوْلاتِ إعادةٍ , فإنّه ما فتئ يخصِّص عناية بالغة للاعبي الاحتياط, و يكيل لهم من عبارات الشّكر والمديح ما يفيض عن الحاجة, سواء بمناسبة أو بدون مناسبة...
وبالنّظر إلى تصريحات المدرّب نفْسِه " افرنسوا هولاند " في أكْثر من مكان, وآخرها في باريس وأبو ظبي, وبالنّظر إلى بيانات طاقمه الفنّي (وزارتيْ الخارجية والدّفاع ) وباقي مساعديه, و تعليقات الصّحافة الفرنسيّة, فإنّ موريتانيا كانت مجرّد لاعب ممتاز على قائمة الاحتيّاط حتّى وقت قريب...إلاّ أنّ الأحْداث الأخيرة والتطوّرات النّاجمة عن "أخْذ" مدن الشّمال, واختفاء المسلّحين, وعمليّات الانتقام ضدّ الطوارق والعرب و الفلاّن, ونزوح هؤلاء قاطبة إلى المجهول, وهشاشة الأمن العام...كلّها عوامِل جديدة حدّدتْ مسارا آخر للحرب.
و في سِيّاق الوضْع الجديد, فإنّه من المنْطِقي تماما أنْ يقوم المدرّب بمراجعةِ حساباته, وترتيبِ أوراقِه, وإعادةِ انتشارِ لاعبِيه. و في هذا الإطار, بدأتْ موريتانيا تتدحْرج من الاحتيّاطِ إلى الوحل, و تنْزلِق إلى مشاركةٍ غامضةٍ...فوْق الاحتياط, وأقلّ من اللّعبِ وسط الميدان...مشاركة, صاحِبها يخاتِل, ويلاحِق بصمْتٍ, ويتابع, ويعتقل في السِّر, ويناور هنا وهناك , من خارجِ خطّ الهجوم, و من خارجِ خطّ الدّفاع...فيما يشْبِه دوْر حارِس المرْمى في التّصدّي لمخاطر"التسلّل" و "المتسلّلين" و صدِّ الهجمات الرّكنية و الجانبيّة المباغتة, وغيْرها من تكتيكات ومكائد اللّعبِ...بالنّارْ.
محمد فال ولد بلال وزير وسفير سابق