معاهــد الميمون أقوت ذرك @ إن لم تبكـهـا فمـا أصبـــرك
أضحت لسيدان الفلا مألفا @ وكل حرث مثل نوني عرك
.من بعــدما كانـت بها خـرد@ يصطدننا مثل اصطيادالشرك
لا طـارب فيها ولا مطـرب @ سبحانـك اللهـم مـا أقــــدرك
ليس من السهل اكتشاف فنيات نصوص مكتنزة تتجاور فيها إحالات كلتا المدونتين الفصحى والعامية، وأمشاج من نصوص شتى مختلفة المشارب، وذلك دأب امحمد ولد أحمد يوره.
فلئن سلس القياد للراوي وانسابت الأبيات رائجة على الألسن فإن إعادة النظر في تشكلها اللغوي ليست بالسهلة ولا اليسيرة.
ظاهر النص أنه وقوف على مرابع الميمون وتباك على ما آلت إليه معاهده، وقصة امحمد مع الميمون قصة جميلة، وعهد لم يغيره الحدثان، بدأت بالألفة والحب وانتهت بالاحتضان الأبدي:
ما تگلع شي حد.امن هون@انفد مغيه واكرظ من دون
علب المارد واكرد لعيون @ إلين امنين العلــب ارگاگ
ويلا ج واطي فالميمــون@ وافكيرنـــــات ؤما ينظاگ
املً ما تگلــع شي كون@ ألِّي تگلع شي من لخــلاگ
فالميمون حاضر متواتر في اغن امحمد وشعره، ولعله الكلمة المفتاحية في النص أمامنا، حيث استهل الشاعر بمعاهده النص، وجاءت كل الأبيات وصفا دقيقا وتتبعا لتحول المكان، ليصل الشاعر إلى العبرة والتسليم بالفناء الذي لا مرد له.
أمر ما جعل الشاعر لا يصبر عن البكاء؛ فالتحول كان مريعا وشرسا، هذه المنازل التي غادرها ساكنوها، وأقفرت مرابعها، استمرأتها السيدان؛ وهي أشرس انواع الذئاب، وقديما قال الشنفرى الصعلوك متحدثا عن أهله المخيفين:
ولي دونكم أهلون سيد عملس@ وأرقط زهلول وعرفاء جيأل
الغريب هو هذا العدول لدى امحمد عن مألوف الشعراء فكثيرا ما يجعلون الديار مرتعا للظباء والمها، هذه الحيوانات الجميلة والمسالمة التي تخفف من وحشة الدار، وربما وجد فيها الواقف على الديار سلوانا، وعزاء عن الراحلين كما عبر زهير عن ذلك في معلقته:
بها العين والآرام يمشين خلسة@ وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
إنه منظر طبيعي مشرق وناعم رغم خلاء الديار ونزوح ذويها.
ولكن الشاعر امحمد كان في عدوله موفقا إلى حد بعيد للتعبير عن الوحشة والخوف الذي أصبح يملأ المكان، فبعد أن كان مرتعا للأوانس الخرد، أصبح مجالا لسيدان الفلا:
(أضحت لسيدان الفلا مألفا) وهي لا شك صورة مخيفة ومرعبة وباعثة على التحسر والبكاء على هذه المرابع التي لم يعد زائرها يأمن حتى على نفسه غائلة الافتراس .
كان تشكيل الصورة معبرا ومجددا؛ فتشبيه الأحراث بحرف أبجدي مركب الاسم من العربية والصنهاجية(انن أعرك) هو تشبيه عميق الدلالة وبديع في الاختيار؛ فتلك النون التي تكتب على شكل نصف دائرة بالمداد الأسود، هي المماثل للحرث الذي فقد نصفه واصبح يشاكلها في لونه ورسمه.
(وكل حرث مثل نوني عرك)
ويأتي تشبيهه السقوط في حبائل الحسان بتعبير جميل وجديد ذي مرجعية من عالم القنص والصيد:
من بعد ما كانت بها خرد@يصطدننا مثل اصطياد الشرك)
إنه اصطياد جميل ومأمون العاقبة كما ان النفس تهفو إليه، عكسا لمن تتناوشه سيدان الفلا في مكان قفر.
وتنتهي الأبيات تلك النهاية الحزينة والتي هيأت لها الأبيات السابقة:
(لا طارب بها ولا مطرب@ سبحانك اللهم ما أقدرك)
إنه تحول موجع لهذه الديار التي عاش فيها الشاعر أيام لهو وهناء، ووصل ورخاء، والتي أصبحت بالنسبة له مثار لوعة وعناء.
وتاتي الخاتمة محملة بالتسليم المطلق بقدرة الله عز وجل، ومذعنة لما يقتضيه ذلك:
(ففي كل شيء له آية@ تدل على أنه واحد)
إنها وقفة اعتبار وتسليم مفعمة بالإيمان العميق والخضوع للقضاء والقدر، وهي تأتي ختاما مناسبا للفقد الذي ملأ كيان الشاعر.
لقد عاين الشاعر المكان في لحظة زمانية آنية(معاهد الميمون أقوت ظرك) فهو ينقل حالة يعيشها وقت نظمه المقطوعة، وينقل بعدسة المصور الفوتوغرافي حالة التحول والتبدل التي عرفتها، ولقد ترجمت القافية المقيدة ذلك الحصار النفسي الذي فرضه المشهد على الشاعر، وما كبح فيه من ذكريات جميلة كان لها أن تمتد لو لم يحاصرها التحول المهول، والسكونية المطلقة.
نقلا عن صفحة الدكتورة الشاعرة : بـاته بنت البراء