منذ القرن الميلادي الثالث كانت هذه البلاد موطنا لمجموعات بشرية مهاجرة من المغرب تنتمي لقبائل صنهاجة التي يثبت العديد من كبار المؤرخين، كالطبري، والجرجاني، والمسعودي، وغيرهم، عروبتها بانتسابها إلى حمير، كما نص عليه أبوطاهر الفيروز آبادي في القاموس المحيط، وابن خلكان في وفيات الأعيان، وغيرهما.
.لقد استعجم لسان صنهاجة باختلاطهم بالبربر في مهاجرهم المغاربية ، ثم إن صنهاجة الجنوب (موريتانيا حاليا) بدأت في استعادة لسانها العربي مع بداية تلقيها للفتح الإسلامي، ثم شهدت هذه الاستعادة تقدما عند قيام دولة المرابطين في القرن الهجري الخامس، ثم شهدت تقدما أكثر عندما استقبلت البلاد جموعا من العلماء والدعاة والمصلحين العرب إثر سقوط دولة المرابطين في المغرب على أيدي الموحدين في القرن الهجري السادس قبل أن تدخل عملية التعريب والتعرب طورها الأكثر تقدما بمقدم بني حسان أواخر القرن الهجري الثامن، وإقبال الزوايا على التعمق في اللسان العربي والإحاطة به خدمة للإسلام الحنيف، وتسييرا للشأن الحياتي العام.
انسجم المسار الاجتماعي، لاحقا، بقبائله الزاوية والحسانية، في منظومة دينية وثقافية ازدهرت واشتهرت بثرائها الحضاري في حواضر وبوادي هذا البلد على نحو منقطع النظير؛ ولم يزل حتى الآن في الجانب الأهلي من كيان القطر، ممانعا، عصيا على حملات المسخ والتغريب المتواصلة عليه منذ مطلع القرن الماضي إلى أيامنا هذه؛ ولكننا لم نعد مطمئنين على استمرار الجانب الأهلي في القدرة على الممانعة بدون رعاية عازمة وحازمة من الجانب الرسمي في وجه العولمة، بما تملكه من أدوات هدم وسلب مواصلاتية رهيبة على بلد تعاقبت على حكمه أنظمة دأبت على تسييره، منذ استقلاله، بلغة الاحتلال!!
لم يرحل الاحتلال إلا بعدما رتب الأمور لمن يخلفه من طبقة المترجمين (آمّاليزْ) التي أكسبتها واسطيتها بين الأهالي وسلطة الاحتلال، قبل رحيلها، مكانة سياسية واجتماعية استغلتها كثيرا وحرصت على استمرارها بدعم ورعاية المحتل الذي سبق أن فتح عند مقدمه مدارس لتعليم لغته يقدم فيها الامتيازات للشيوخ والوجهاء، فلم يحن وقت الاستقلال في العام 1960م حتى كان المعول عليهم من الموريتانيين في مباشرة التسيير الإداري الموروث، متفرنسين يعتزون بلغة المحتل ويتباهون بها ويزهدون، إلى حد الازدراء، في لغتهم العربية حتى أمست عرضة لنظرة دونية في عموم مدن البلد تقريبا، ووجد كل من لا يعرف الفرنسية نفسه على هامش الحياة الإدارية والسياسية..!!
تحرك العديد من الوطنيين في المطالبة برد الاعتبار إلى اللغة العربية، فكانت هناك "إصلاحات" كما يسميها أصحاب القرار، من بينها إحداث شعب تعليمية عربية يتخرج طلابها بشهادات جامعية ولكنهم، في الغالب، يأخذون طريقهم إلى العوز في مستنقع البطالة لأن معظم دوائر القطاعين العام والخاص مسيّر بالفرنسية، وقد أحدثت هذه الوضعية زهدا لدى العديد من الشباب في تعلم لغتهم العربية.. وإذا انتبهنا إلى كون جهل هذه اللغة يترتب عليه، حتما، جهل القرآن والسنة، وإلى كون بلدنا قائم، في المعتبر من تاريخه، على هذين المصدرين، وما ارتبط بهما من ثقافة وأدب، أدركنا بداهة ما كان يهدف إليه الاحتلال أصلا من تحطيم أسس كياننا الحضاري حتى لا يبقى له مخالف في منطقة نفوذه الافريقية، وهذا ما يفسر صبره وتحمّله لما مُني به من خسائر بشرية ومادية على أيدي المقاومة الجهادية قبل أن يتغلب عليها أوائل ثلاثينيات القرن الماضي.
سياسة الاحتلال هذه أوصلت البلد إلى وجود فئة، أو فئات، من المواطنين تربط أنفسها ومصائرها بالفرنسية، حتى صارت لا تكاد تلحظ توجها رسميا لخطوة نحو التعريب إلا هبت في وجهها معترضة بما ملكت من وسائل الضغط والدفاع عن لغة الاحتلال؛
فصارت التوجهات الرسمية تتراجع كلما رأت، أو توقعت ملمحا من ذلك الاعتراض!!
لا نريد أن نجعل من الحديث عن هذه العقبة ختاما لهذا المقال حتى لا نقع في شرك اليأس والاستسلام، وإن لنا في لساننا العربي ما ينفع الناس ويمكث في الأرض؛ فما علينا إلا أن نثق بأنفسنا ونضاعف الجهد الموصل إلى حقنا في التعريب الرسمي، ولكن بطريقة يهذب التحضر سلوكها، وترشد الحكمة خطواتها!!