كل الشكر للجمعية العمانية للكتّاب والأدباء على إفساح المجال لي للمشاركة في هذه الندوة الفكرية القيمة، ولإتاحتها الفرصة لي لزيارة أرض عُمان الطيبة والعريقة للمرة الأولى، كما لاختيارها لهذه الندوة عنوان “التطرف الفكري ومدى تأثيره في المجتمع العربي، وفي توقيت يشي بالحاجة الماسة إلى مناقشة هذه القضية التي باتت تشغل العالم كله.
.
ان اختيار مصطلح “التطرف الفكري” فيه الكثير من الدقة الموضوعية، لأن التطرف الذي تعاني منه الأمة، كما العالم، ليس محصوراً بفكر محدّد أو اتجاه دون غيره بل عرفت الأمة، كما العالم، نماذج مختلفة من التطرف الفكري أدى بعضها إلى حروب عالمية كالتطرف النازي والصهيوني باسم القومية، وبعضها الآخر إلى استبداد وإقصاء وتصفيات دموية باسم الاشتراكية، وبعضها إلى هيمنة واستعمار وعدوان كما هو حال بعض “الليبراليين الجدد” الذين أرادوا إقامة ديكتاتورية عالمية باسم “الليبرالية” “والديمقراطية” ناهيك عما شهدناه من تطرف ديني في أديان أخرى سماوية غير سماوية، وصولاً إلى ما نشهده مؤخراً من تطرف باسم الإسلام والإسلام منه براء، وبما هو الأخطر والأكثر غلوا وتوحشاً من كل ظواهر التطرف الأخرى في منطقتنا.
فظاهرة التطرف الفكري بكل أسبابها العميقة، وتجلياتها المتنوعة، تحتاج بالتأكيد إلى تحليل عميق، ودراسات موضوعية، ونقاش واسع، لا ينحصر بالجانب الفكري فقط، بل بالجوانب السياسية والاقتصادية والتربوية والنفسية وذلك لكي نتمكن من معالجة جذورها، قبل التعامل مع ظواهرها، فلا نغرق في مواقف آنية، أو انفعالات لحظوية، أو نقع في ازدواجية معايير، لأن في هذا كله ما يعيد إنتاج التطرف ولو بمظاهر مختلفة في الشكل، موحدة في الجوهر…
وتطرف اليوم هو استثمار ناجح ، داخلي وخارجي، في خلل بنيوي شاب علاقاتنا السياسية والاجتماعية، فعلاقة الحاكم في اعتقادي بالمواطن، شابها الاستبداد، وعلاقة الجماعة بالجماعة أحاط بها الإقصاء والتهميش والاجتثاث، وحتى علاقة الفرد بالفرد باتت في أحيان كثيرة أسيرة التنافر والتناحر واللهاث وراء المصالح الشخصية والنجومية والاستعراضية…، بل يمكن القول أن هذا التطرف المصحوب بالغلو والتوحش الدموي والتدميري يحقق لأعداء الأمّة، بغض النظر عن نوايا أصحابه، ما لم تستطع كل مؤامراتهم ومخططاتهم أن تحققه.
وما اختيار”الفكر العربي بين السياق القومي والتطلع العالمي” عنواناً لمداخلتي اليوم إلا التعبير الأسطع عن أهمية السعي لمعالجة هذه الظاهرة من خلال إعادة الاعتبار إلى السياق القومي الجامع لمقومات الأمة والنابذ لكل العصبيات والغرائز التفتيتية، كما إلى التركيز على البعد العالمي لهذا السياق القومي الذي هو في الوقت تحصين له وتمتين لدعائمه وتعميق لأبعاده الإنسانية والرسالية…
وقبل الشروع في هذا البحث لا بد من تسجيل الملاحظات التالية:
-
ليس الفكر العربي فكراً واحداً منسجماً حتى يمكن الحديث عنه دون الإشارة إلى وجود أكثر من مرجعية لهذا الفكر، سواء بتعابيره القديمة الممتدة في تاريخ هذه الأمة، أو بتعابيره المعاصرة التي تضج بها منابر الفكر العربي…
وبالتالي لا بد من تحديد من مرجعية الفكر، موضوع النقاش، كي لا تتشعب المباحث، وتتسع النقاشات.
وهنا اعتقد إن مداخلتي ستتركز على المرجعية القومية للفكر العربي الذي أظن إن التزامي التاريخي بالمرجعية القومية هو سبب اختياري لمعالجة هذا العنوان.
-
إن تعدد مدارس الفكر العربي، حديثاً أو قديماً، لا ينفي أنها في معظمها ذات بعد عالمي، فالفكر ذي المرجعية الإسلامية هو بالضرورة فكر ذو بعد إنساني وعالمي لاتصاله برسالة سماوية موجهة للعالمين جميعاً وقد تجاوزت بالفعل في انتشارها المحيط العربي إلى أمم أخرى ممتدة من شرق آسيا إلى أعماق أفريقيا والى تجمعات إسلامية في دول الغرب الأوروبية والأمريكية.
والفكر ذو المرجعية اليسارية، وتحديداً الماركسية، هو فكر أممي بالتعريف يتوجه إلى البروليتاريا على مستوى العالم وتنطلق قراءاته للواقع من تداخل المحلي بالإقليمي بالعالمي، وبالتالي فالعرب الملتزمون بهذا الفكر محكومون بالتطلع العالمي.
أما الفكر ذو المرجعية الليبرالية، فهو في نشأته وتطلعاته فكر مرتبط بمدارس فكرية عالمية، وغربية بالتحديد، حيث تستند كل احاجيجه وأفكاره إلى منجزات الغرب وأسلوب الحياة في مجتمعاته.
-
إن الفكر العربي عبر تاريخه الممتد إلى ظهور الإسلام، وما ارتبط به من مفكرين وفلاسفة وعلماء، كان دائماً ذا بعد عالمي، وقد خرجت منه قوانين وتحليلات عميقة في كل مجالات الفكر والعلم لم تنحصر مفاعيلها وأثارها في المحيط العربي والإسلامي بل كان لها تأثير على نطاق العالم المعروف في أيامهم، تماماً مثلما لا يمكن إغفال تأثير الثقافات والحضارات العالمية على الفكر العربي، وبكل فروعه، فبات وكأن فكرنا العربي هو جسر بين حضارة الأمة وحضارات العالم، يأخذ من تلك الحضارات في مرحلة ليزودها بما أنتجه من معرفة في مرحلة أخرى.
-
إن اختيار عُمان بالذات أرضاً لمناقشة هذه الأفكار هو اختيار مناسب أيضاً، لأن عُمان بتاريخها وثقافتها ودورها الراهن هي ارض اعتدال، ومجتمع انفتاح، وصاحبة رسالة محصنة بوجه أي غلو وتطرف.
كما إن عمان بموقعها “الجغروحضاري” المطل على قارات وعوالم، هي ارض تطلع عالمي، وهي جسر تفاعل بين العرب وأمم عريقة في آسيا وأفريقيا، بل إن خبرة أبنائها في الملاحة بما كان يسمى “بالبحار الموسمية” جعل منهم مشاركين في ابرز الاكتشافات الجغرافية والتاريخية العالمية من اكتشاف كولومبوس لأمريكا إلى اكتشاف ماجلان لرأس الرجاء الصالح، وفي الحالتين كان هناك بحارة من عُمان.
-2-
في ضوء الملاحظات الأنفة الذكر ندخل في صلب موضوع المداخلة اليوم “الفكر العربي بين السياق القومي والتطلع العالمي” مشيرين إلى جملة أفكار تتصل بالفكر العربي ذي المرجعية القومية.
أول هذه الأفكار إن الفكر القومي العربي بمدارسه القومية الرئيسية الناصرية، البعث، القوميون العرب، ومن خلال تركيزه على العلاقة التكاملية بين العروبة والإسلام، هو بالضرورة فكر ذو تطلع عالمي، لأنه يضع العرب كأمة، وكثقافة وكتحديات، في قلب العالم الإسلامي الموزع بين قارات كما بين تجمعات إسلامية في قلب دول الغرب نفسها.
وبالتالي فان الإسلام، وغيره من الرسالات السماوية التي انطلقت من الأرض العربية، يحصن العروبة من أي نزعة شوفينية أو عنصرية سواء تجاه الجماعات القومية أو الاثنية التي تسكن في الوطن العربي الكبير أو الشعوب غير العربية التي تعتنق الإسلام .
فالإسلام، كما المسيحية العربية، يعطي الفكر القومي العربي بعداً عالمياً وإنسانيا، وإن للأمة العربية رسالة تتعدى حدود قوميتها وهذا ما عبّر عنه جمال عبد الناصر في “فلسفة الثورة” حين تحدث عن دوائر ثلاث عربية واسلامية وافريقية، وما شدد عليه البعث ان “العروبة جسد روحه الاسلام”، وما تضمنه المشروع النهضوي العربي الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 2010، وهو المشروع الاحدث في تعبيره عن الفكر القومي العربي بمعناه الجامع، وقد شارك في صياغته مفكرون ومثقفون من كل تيارات الأمّة.
ثاني هذه الأفكار إن الفكر القومي العربي، بمدارسه المتنوعة، كان يدرك الحقائق الجيواستراتيجية المحيطة بالوطن العربي المطل مباشرة على قارات كبرى ثلاث هي إفريقيا وآسيا وأوروبا بما يحتم عليه أن يكون ذا تطلعات عالمية فيها الاقتصادي والثقافي والحضاري والاجتماعي، كما فيها السياسي والأمني والاستراتيجي.
لذلك لم يكن من قبيل الصدف أن يلعب قائد عربي كبير من رموز الحركة القومية العربية كجمال عبد الناصر ، ومعه احد مؤسسي البعث (المدرسة القومية الأخرى) صلاح الدين البيطار (وزير خارجية سوريا آنذاك) دورا استثنائياً في إطلاق الحركة العالمثالثية والمتمثّلة آنذاك في دعم حركات التحرر في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وفي مقاومة الأحلاف والمشاريع الاستعمارية، وبشكل خاص في صياغة ما يمكن تسميته رؤية إستراتيجية لحركة عدم الانحياز التي بدأت إرهاصاتها في مؤتمر باندونغ عام 1955، واستمرت بزخم حتى رحيل جمال عبد الناصر عام 1970، حتى إذا ما انتكست الحركة القومية العربية انتكست الحركة العالمثالثية وما تزال.
ثالث هذه الأفكار إن الفكر القومي العربي باعتباره يحمل مشروعاً للتحرر في الوطن العربي، فهو بالضرورة مرتبط بأفكار حركات التحرر في العالم بأسره، وبالتالي لا يمكن أن يكون إلا صاحب تطلعات عالمية تدرك إن معركة التحرر والاستقلال في العالم معركة واحده تخوضها كل الشعوب التي تعاني من محنة الاستعمار والهيمنة والتبعية.
رابع هذه الأفكار إن الفكر القومي العربي باعتباره يحمل دعوة لوحدة العرب، إنما يحاكي في دعوته هذا اتجاهاً عالمياً للتكتل بين الدول في منظومة إقليمية أو قارية كبرى، وبالتالي فهو فكر يستمد من هذه الاتجاهات السائدة في العالم زاداً في توجهاته الوحدوية، كما انه بتوجهه الوحدوي إنما يعزز كل اتجاهات الوحدة على المستوى العالمي أيضاً.
خامس هذه الأفكار إن الفكر القومي العربي باعتباره يحمل توجهات تنموية على مستوى الأمة، بل لا يرى أفقاً لتنمية بشرية حقيقية إلا في إطار وطن عربي واسع، بسوق عربية مشتركة، وتكامل اقتصادي عربي متين، يدرك أيضاً إن مثل هذه التنمية لا يمكن أن تقوم دون تفاعل وتواصل مع الجهود التنموية على المستوى العالمي ، كما لا يمكن لأمة اليوم أن تنهض تنموياً إذا عزلت نفسها عن بقية العالم وعما حققه العالم من انجازات.
سادس هذه الأفكار إن الفكر القومي العربي باعتباره فكرا مناهضاً للمشروع الصهيوني العنصري التوسعي الذي هو بدوره مشروع عالمي يستمد جزءا من قوته من امتداده وتأثيره العالمي، مضطر لأن يهتم بالبعد العالمي لمقاومة هذا المشروع بهدف تجريده من أهم أسلحته، وهو التأييد العالمي.
لهذا لم يكن من قبيل الصدف أن يركز هذا الفكر على الطابع الإنساني والديمقراطي والتحرري لمعركة العرب ضد المشروع الصهيوني، بل أن يؤكد انه يميّز بين اليهودية كدين وبين الصهيونية كحركة عنصرية استعمارية، وهو تمييز تحتمه بالإضافة إلى طبيعة هذا الفكر في سياقه القومي، اعتبارات يمليها عليه تطلعه العالمي.
لقد كانت هذه القناعة التي يؤمن بها أصحاب الفكر القومي العربي وراء العديد من المبادرات التي انطلقت من وطننا العربي إلى العالم كله، والتي تبرز مؤخراً في منتديات وملتقيات عالمية تضم الآلاف من شرفاء الأمة وأحرار العالم وكمبادرة أسطول الحرية مثلاً وقد أطلقتها في مجملها مؤسسات حاملة لهذا الفكر القومي العربي كالمؤتمرات القومية الثلاث، وهيئة التعبئة الشعبية العربية، وخصوصاً المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن وهيئات ناشطة في دول العالم. ووقد أعلن المسؤولون الإسرائيليين في أكثر من مناسبة خشيتهم من اتساع هذه المبادرات لتتحول إلى حركة عالمية لنزع الشرعية عن الكيان الصهيوني.
سابع هذه الأفكار إن الفكر القومي العربي باعتباره ينطلق من العروبة كهوية ثقافية حاملة لمكونات دينية ومذهبية واثنيه متعددة، إنما يقدم نموذجاً لهوية عالمية قادرة على تحويل التباين بين مكوناتها إلى تكامل، والتنافر إلى تفاعل، والصراع إلى حوار، بما يجعل هذا الفكر يأتي في سياق رؤية عالمية تدعو إلى حوار الحضارات والثقافات والأديان في مواجهة حال الصراع والتناحر والإقصاء التي تهدد بتفتيت المجتمعات وتدمير الكيانات الوطنية والإقليمية والدولية وابقاء العالم اسيرة حروب لا تتوقف. أن الفكر القومي العربي الجامع هو الرد العملي على نظرية صراع الحضارات وبالتالي فهو ذو بعد عالمي أيضاً.
في ضوء هذه الملاحظات والأفكار يمكننا القول إن الفكر العربي ذي المرجعية القومية محكوم بالتطلع عالمياً والانفتاح على شعوب وتجارب وحضارات وثقافات على مستوى العالم بأسرها، وانه بمقدار ما يمكن لهذا الفكر أن يهتم بتطلعه العالمي يمكن له أن يتطور ويتجذر ويتحصن ويحقق طموحاته-
-----------------------------------------------------------
* الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي
رئيس المركز العربي الدولي للتواصل التضامن