في إحدى ندوات المؤتمر الدولي الأول للطريقة البكائية المنعقد بانواكشوط إبريل 2015م ، اِعترض الدكتور دَدّوُدْ ولد عبد الله، في مداخلة له، على نسبة هذا الفرع من الصوفية القادرية إلى الشيخ سيدي احمد البكاي، مبينا رأيه بأن الصواب أن تنسب إلى سيدي عمر الشيخ، فنقول: (( العُمَرية)) بدلا من ((البكّائية)).
.ومع أنى كنت، ومازلت، معجبا بأهلية الدكتور المعرفية، وبوجاهة طرحه للقضايا التي يتحدث عنها، فلم أكن أوافقه فيما ذهب إليه هنا، ولكن لم أعلق حينها، لأنني، من جهة، لم أكن مدرج الاسم من بين أصحاب المداخلات المقررة في الندوة، ومن جهة أخرى لم أر خطورة فيما لم أوافق عليه من كلام الدكتور، ليقيني بأن عدم نسبة هذه الطريقة إلى الشيخ سيدي احمد البكاي لن ينقص من قدره شيئا، وبأن الدكتور لم يكن يقصد ذلك؛ وإنما يريد، بمقتضي منهجه العلمي المعروف عنه، أن يُبْقِي المعطيات التاريخية، في حدود معلوماته، على حالها حتى يثبت لديه خلافها، آخذا بالمشهور من عدم ورود اسم الشيخ سيدي احمد البكاي في سلسلة سند الطريقة، وابتداء أخذها من قبل ابنه سيدي عمر الشيخ من الشيخ عبد الكريم المغيلي.
ولقائل أن يقول لي: وما الذي بقي لك من أساس لمخالفة الدكتور فيما ذهب إليه..؟ فأجيب بما يلي:
أولا: إن ابتداء وصول هذه الطريقة إلى المنطقة بسيدي عمر الشيخ غير مسلم به، وإنما مشهور، ومجرد الشهرة لرواية مّا لا يقتضي رجحانها، وإنما يقتضيه استحقاقها بعد البحث والمقارنة بما يخالفها من الروايات. وذلك مبحث ترجيحي معروف في الأصول ومباحث السند. وهذه الرواية تقابلها رواية أخرى، قد لا تساويها في الشهرة، ولكنها، على كل حال متداولة، ولم يقمْ دليل ولا قرينة حتى الآن على نفيها، وهي أن الشيخ سيدي محمد الكنتي الكبير، الأب المباشر للشيخ سيدي أحمد البكاي، أخذ هذه الطريقة عن شيخه أبي العباس السبتي، وأعطاها، بدوره، لمجموعة من تلاميذه وفي مقدمتهم ابنه الشيخ سيدي احمد البكاي. وهذه الرواية قدمها، بدرجة عالية من الترتيب المنطقي، فضيلة القاضي محمد عبد الرحمن بن عبدي في مداخلة له في إحدى جلسات المؤتمر تشرفت بأن كنت مقررا لها.
ثانيا: لو افترضنا مرجوحية هذه الرواية، أو نفيها بتاتا بمنهج علمي ترجيحي سليم، فإن العديد من المسلمات يبقى، بعد ذلك، مسوغا لنسبة هذه الطريقة إلى الشيخ سيدي احمد البكاي؛ فالعلامة الجليل والمربي الورع: سيدي عمر الشيخ، ابنٌ مباشر، وتلميذ مقتدٍ لوالده الشيخ سيد احمد البكاي، وهو الذي خلّفه في الزعامة الروحية، بعدما اطمأنّ على بلوغه المرتبة التي أراد له من تعليمه وتربيته إياه، وقد كانت وصايا الأب لابنه نبراسا له، ولأخويه: سيد امحمد الكنتي الصغير، والطالب بوبكر الحاج قبل وفاته المبكرة؛ ولم يكن التقاء سيدي عمر الشيخ بعبد الكريم المغيلي، والإمام السيوطي إلا بعدما نهل من معين العلم والتصوف من لدن والده الشيخ سيدي احمد البكاي، رحم الله الجميع.!!
وفضلا عن ذلك فإن يُسْرَ وبساطة ورْدِ هذه الطريقة، وخلوّها، في الغالب، مما يُعرف بشطحات الصوفية،أثرٌ فيها واضح من آثار الشيخ سيدي احمد البكاي الذي تواتر عنه أنه كان مصلحا صارما في محاربة البدع، وتجنب المحاذير في المعتقد والسلوك الشرعي.
ثالثا: نسبة هذه الطريقة الى الشيخ سيدي احمد البكاي ليست محدثة فيها ولا خلية من مكانة القائلين بها. وقد أسلفت الكلام عن تقديمها من قبل فضيلة القاضي المعروف، والخبير المعتمد في هذا المجال: محمد عبد الرحمن بن عبدي.
وفي زيارة لمعالي الوزير السابق، ديدي ولد بونعامه، في منزله بالعاصمة، حدثني ، وهو الثقة المتعمق والمدقق في تحصيله المعرفي، بأنه، على الأقل، لا يرى مانعا من نسبة هذه الطريقة إلى الشيخ سيدي احمد البكاي، كما أنه لا يرى تعارضًا بين ((بكائيتها)) و((عمريتها))، ثم أفاد بأن العلامة ألأزهري د. أحمد الشرباصي، قد تحدث عنها موردًا اِسمها هكذا: ((القادرية البكّائية))، حيث قال إنها انتشرت في ((تيمْبكتو))، وفي ((آدرار)) من واحات الصحراء، وفي السودان حتى ((سيراليون))، وذلك في الصفحة 213 في الجزء الخامس من الطبعة الأولى من كتابه: ((يسألونك ...))، الموجود بالمكتبته المنزلية لمعالي الوزير الذي أراني،على سبيل التثبت كلام الشرباصي، فإذا به مطابقا لما ذكر حرفا بحرف.
وحتى الذين يرون ابتداء هذه الطريقة بسيدي عمر الشيخ لايترددون في نسبتها إلى الشيخ سيدي احمد البكاي اعتبارا لتلمذة الابن، وبنوّته للأب، وعلى ذلك نسبها إليه الخبير الفرنسي ((بول مارتان)) حيث قال بالحرف في الصفحة 33 من كتابه ((كنته الشرقيون))، تعريب الأستاذ محمد محمود بن ودادي، ما نصه: ((... كما أن الفرع الناشئ عنه ]يعني المغيلي[هو الذي سيصبح مع استقلاله الذاتي، أكبر الطوائف القادرية،وهو الفرع الْبَكّائيّ...))
وفي ختام هذا العرض أُنبّهُ الجميعَ إلى مسألتين، أولاهما: أنه لا يجوز أن نجعل من عموم الطرق الصوفية، على فضلها وأهميتها، سبيلا أو مجالا وحيدا للهداية والنهوض بشرعة الاسلام فنكون، بذلك، ممن يُضيّقون واسعا..!!
والثانية: أن مثل هذه الأمور ينبغي عرض مختلف الآراء فيها بما يخدمها دون تعصب أو حساسية، فكل ما سوى الثوابت والمُسَلّمات في معتقداتنا ومعارفنا الشرعية، قابل للبحث والنقاش،واختلاف الآراء، ولكن من قبل أهل الدراية والإخلاص فقط ..!! بل إن منهاج البحث والاستقراء والاستنتاج يجب أن ينتهي الحَجْر عليه، ويُفسح له المجال ليعطيَنا مفهوما وطنيا يحكمنا بتوازن وتكامل، حتى يقوم كياننا على واقعية وعبرة من تاريخنا بما يخدم مشروعنا التنموي الشامل..!!
محفوظ ولد الفتى