أكثر من مليارين ومائتي مليون إنسان عبر العالم يعانون من الوزن الزائد ذي المخاطر الصحية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية الكبيرة جدا.
.
قال مثلنا الشعبي «كل شي زاد عن حده نقص» والزائد أخو الناقص»وإذا كان حبيبك عسل لا تلحسه كله».
إلا أن عرب هذه الأيام هم أكثر الأمم معاناة من الوزن الزائد حيث تصل نسبة البدناء من الرجال العرب إلى ٪58 ومن النساء إلى 65٪، هذا التطور حصل في العقود الأخيرة، والسمنة ليست من اختصاص الميسورين فقط، فهي منتشرة لدى الفقراء ربما أكثر، بسبب تناول الطعام السريع المشبع بالدهون وعدم وجود خيارات غذائية كثيرة، كذلك عدم ممارسة الفعاليات الرياضية،علما أن شعراء العرب اعتدوا بقاماتهم الرشيقة بل الهزيلة جدا حيث قال طرفة بن العبد الجاهلي «أنا الرجل الضّرِب الذي تعرفونه – خشاشٌ كرأس الحية المتوقد».
وقال شاعر لاحق «ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور».
بينما تغزّل بعضهم واستحسن بدانة المرأة كما عمرو بن كلثوم حيث قال واصفاً ما تريه (أم عمرو) إذا دخل معها إلى خلاء و «مأكمة يضيق الباب عنها – وكشحاً قد جننت به جنونا»، والسمنة والضخامة لدى عمرو بن كلثوم رمز الخصوبة والخير والشبع.
إلا أن العرب منذ الزمن الغابر أجمعت على أن خير الأمور أوسطها في كل شيء.
فقد قال زهير بن أبي سلمى الجاهلي:
«هم وسطٌ يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي العظائم».
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم «خير الأمور أوسطها» و «عليكم بالنمط الأوسط».
وفي القرآن الكريم «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا»
والوسط أو الأوسط هو الأعدل حسب تفسيرات المختصين.
إلا أن الأمة العربية تعيش حالة من الزيادة أو النقص في كل شيء وليس في الوزن فقط، وكأننا في مرحلة محاربة الوسطية.
كانت السنة الماضية في سوريا والعراق سنة مجازر لم يشهد التاريخ الإنساني كثيراً مثلها، حيث قتل أكثر من 70 ألف إنسان في البلدين خلال عام، وما زال الحصاد مستمرا، الحقد زاد عن حده، والرحمة فقدت كأنها لم توجد من قبل.
لدينا حصارات للمدن والمخيمات تطول من عام إلى عام وتضرب أرقاما قياسية في حقدها ووحشيتها، حتى خرجت منها صيحات رجال ونساء وأطفال «نحن جوعانين دخيلكم…اليهود أرحم منكم».
الوطنية الزائدة أو الخوف الزائد من السوريين جعل السلطات اللبنانية تطلب تأشيرة دخول وضمانات من اللاجئين السوريين المساكين الذين لا حول لهم ولا قوة.
الحب المغالي لسيدنا الحسين جعل البعض يعادي أهل السنة ويعمق الوهم بأن هؤلاء هم قتلة الحسين، ويصل الجنون لدى البعض بأن يدافع عن الحسين من خلال محاربة المظلومين المنتفضين في سوريا.
التعصب الزائد جعل البعض ومنهم الداعشيون يؤمنون بأنهم وكلاء الله على الأرض، فيقتلون ويقطعون الرؤوس ويفجّرون حتى بيوت الله باسم حماية الله من المرتدين والكفرة.
التعصب الزائد جعل البعض يظن أنه لا يمكن التعامل مع غير المسلم إلا كعدو ومشكوك بأمره، وأنه لا يعاملنا إلا كأعداء، فلا احترام ولا تقدير لحضارته وعاداته وتقاليده حتى ولو غزا المريخ أو اخترع الدواء الذي يشفي الناس، بل وإن كان يمد يد المساعدة لفقرائنا ومشردينا.
التعصب الزائد جعل حاضرنا شديد القتامة، صرنا نشعر بأن الإسلام قبل ألف عام كان أرحم بكثير من إسلام هذه الأيام، وأكثر حرية وفكرا وانفتاحا واستيعابا لحرية الكلمة والرأي والإبداع، وقبول فكر الآخر وترجمته، ولو كان أبو العلاء المعري يعيش في عصرنا هذا لما استطاع إصدار رائعة العرب»رسالة الغفران»، وكان اتهم بالزندقة والردة عن الإسلام وربما كان مصيره القتل، وكان الكثيرمما كتب أبو حيان التوحيدي قد شطب ولم يسمح بنشره، وكانت شطبت فصول من طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي، وكانت حكمت ولادة بنت المستكفي بالسجن مدى الحياة في بيتها بتهمة نشر الفساد وإفساد المؤمنات والمؤمنين.
تعصب هذه الأيام الزائد جعلنا نخشى حتى التساؤل أو الجهر بما نفكر فيه خشية رد فعل متطرف، فليس عليك سوى تلقي ما يلقنونه لك، وأي تساؤل في قضايا الدين وصحتها أو منطقها فهو حرام ولعب بالنار.
التعصب الزائد أوهم البعض أنه هو الذي يملك ناصية الحقيقة حول الكون والخلق ومصيرالإنسان قبل وبعد الموت وفي كل مسائل الحياة، بينما غيره يعيش في ضلال وظلام دامس.
في الوقت نفسه فإن وجبة التعصب الزائد للانفتاح والرغبة بالتغيير، جعلت البعض ينسف كل الماضي العربي والإسلامي، لا يعترف بشيء، ولا يريد شيئاً، لم يعد يرى من تاريخنا سوى العنف والدماء، وسجادة تعفنت يجب كتها، أو إحراقها، وصار يسخر من كل شيء، ولا يقنعه أي شيء.
فقدنا التوازن والوسطية، أغلقنا عقولنا، ويبدو أن هناك من عمل وما زال يعمل على أن ننحرف عن الطريق الذهبي الذي جعلنا في يوم من الأيام «خير أمة أخرجت للناس» لم نعد أمة وسطاً، لم يعد لدينا حكام وسط، ولا ثوار وسط، فقدنا القدرة على التوليف أو المعادلة الذهبية بين الدنيا والآخرة، بين الإيمان وحرية الفكر والتساؤل والبحث، بين الحكم والعدل، بين الثورة والرحمة. حشرونا في ركن قاتل «إما معنا أو ضدنا». يا اسود يا ابيض، الاحتجاج والمعارضة تواجه بالتخوين والقمع الوحشي حتى السحل والسجن طويل الأمد والقتل، ويواجه التساؤل بالتكفير والتحريض الدموي حتى القتل. هكذا صار معظمنا كفاراً أو مؤيدين لهم أو إرهابيين ومؤيدين لهم، وضاع الوسطيون، ضاع العقلاء، ضاع العدلاء، وا حسرتاه.
سهيل كيوان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلا عن القدس