مع إشراقة كل يوم تطفو على سطح مواقعنا الإخبارية بعض من نُذر الأخطار المحدقة ببلادنا، والتي لا نزال نتعامل معها بمقاربات سطحية، تارة بسياسة النعامة، وتارة أخرى بمهدئات ظرفية، ما يلبث رمادها أن ينقشع عن لظى الحقيقة المُرَّة.
.
دعونا نصارحْ أنفسَنا، ونمارسْ نقدا ذاتيا وموضوعيا لأحوالنا، بعيدا عن لغة التدجين التي جعلتنا- لفرْط ما تحدثْناها- نوشك أن نصدق أننا بألف خير، وأن الآخرين هم الجحيم، وأن إلهامنا الخارق جعلنا نتنبأ بالربيع العربي فى عز الصيف الموريتاني، ونحرك فصول السنة على هوانا،ونلحق بركب الأمم المتقدمة (كأن تلك الأمم قررت أن توقف عجلة الزمن حتى نلحق بها).
دعونا نصرفْ جهودنا إلى ما هو أهم من تصفية حسابات ضيقة، وتفريط فى قضايا الوطن الحساسة، وإفراط فى التمسك بالسلطة من طرف النظام، و إفراط أشد فى السعي الأعمى إليها من طرف المعارضة.
إن من خوارق حكومتنا قدرتها الفائقة على استحداث "البرامج الإستعجالية"، والتي يبدو أن آخر ابتكاراتها "برنامج استعجالي للإجهاز على رأس المال الوطني"، وهو – ككل رؤوس الأموال فى هذا الكون الفسيح- جبان وناقل للعدوى القتالة لكل ما له علاقة بالإستثمار والتنمية الإقتصادية والإجتماعية.
إن حكومتنا، وهي تشن حربها التضامنية ضد محمد ولد بوعماتو وبقية المنتظِرين على لائحة التصفية المالية والإقتصادية، تفر يوم الخندمة عن مواجهة مخاطر جمة تحتاج كثيرا من الحكمة والكفاءة بدل التهور والإنتقائية:
النسيج الإجتماعي الهش مهدد بالتمزق خطابا وممارسة، والأصوات المنادية بالعدالة الإجتماعية تتعالى كل يوم ، وهمُّ الحكومة ربح الوقت بحلول مرتجلة ووخيمة العواقب (تجييش شريحة ضد أخرى، وسط تنامي الحديث عن الشروع فى تجنيس أجانب للتأثير على الخارطة الديمغرافية للبلد، والتصامُم عن المطالب المشروعة لبعض منظمات حقوق الإنسان...). إنها، فى المحصلة، إجراءات تصب الزيت على النار،عوض أن تنزع فتيل القنبلة الموقوتة التي قد تنفجر فى أية لحظة، ولن يسلم من شظاياها المدمرة وطن ولا مواطن،
المظلومون والمستضعَفون والمفصولون والمشرَّدون يستلقون أسوار القصر الرئاسي و يخيِّمون أمامه، فى مَشاهد مكررة تصرُّ الدولة على تسويقها كظاهرة صحية من ظواهر حرية التعبير والتجمع، وتتجاهل رسائلها المعبرة عن امتعاض فى الصميم الشعبي من دفع رواتب وعلاوات مزجية لمسؤولين أثبتوا عجزهم عن تحمل المسؤولية،
دبلوماسية تلاحق الأحداث بالبيانات المستنسخة، غالبا، من قصاصات وكالات الأنباء وتصريحات المسؤولين فى الدول المجاورة ( يتم "احترام" وزير الخارجية بالأيدي والآلات الحادة، ويوزع بعض السفراء الشتائم والأوصاف العنصرية على مساعديهم، وتُهمَّشُ الكفاءات الشابة، ويُقصَى أصحاب الخبرة والتجربة من طرف حكومة ترفع شعار تجديد الطبقة السياسية، وتُدارُ أهم سفاراتنا بالإنابة، ويعيش الدبلوماسيون منفيين فى مناطق اعتمادهم، و المعلن من مواقف بلادنا ، عموما، عكس المُضمَر، وواقع علاقاتنا بجيراننا مثير للشكوك )،
دبلوماسيتنا الإقتصادية لا تجلب إلا القروض التي تثقل كاهل دافع الضرائب، ويتم تسويقها على أنها برهان على مصداقية الدولة (أحسن ما ستحصل عليه الأجيال القادمة هو إعادة جدولة هذه الديون أو تحويلها إلى استثمارات مقابل فوائد مجحفة)،
معظم مؤسساتنا الدستورية موسومة بانتهاء الصلاحية، وجبهتنا الداخلية منقسمة – لحد التنافر- حيال قضايانا الجوهرية، وكل قوم بما لديهم فرحون،
حروب مؤججة على حدودنا، وأخرى خابية تحت الرماد قد تنطلق شرارتها دون سابق إنذار (مالي، الصحراء، كازامانص، الإرهاب ومتفرعاته من تجارة المخدرات والتهريب والجريمة المنظمة)، وحكومتنا تستطيب "النصبَ" و "الجرَّ" مفعولا بها و مسحوبة إلى المجاراة والتبعية، لا فاعلة "ترفع" شأن البلاد وتحمي حمى العباد. فما هي الكبيرة التي اقترفناها فحلَّ بنا هذا العقاب الرباني؟
إن موريتانيا اليوم كسفينة تتقاذفها الأمواج العاتية وتوشك أن تغرق، بينما يلهو من على متنها، رُبَّانا وركابا، بإشعال النار بمجاذيفها.
ولا يزايدنَّ أحدٌ عليَّ بكلام العامة، ولا يشغلنَّ كاتبٌ أو مكتوبٌ له نفسه بمجادلتي واتهامي جزافا بنكران "إنجازات الحكومة"، فموريتانيا ملك لنا جميعا، وأمانة فى أعناقنا جميعا، وهي أبقى وأولى من الموالاة ومن المعارضة، و"إنجازات" الحكومة ضئيلة فى مواجهة انتظارات الشعب التي لا تقبل التأجيل.
إن الأعاصير المحدقة بنا تفرض علينا – رئيسا ومرؤوسين- قراءة صحيحة لواقعنا، وتنازلات وطنية،من كل طرف، لتأسيس مستقبل مضمون وآمن لبلادنا،وإلا فإننا ،جميعا،لن نفلت من عقاب التاريخ، وسيلاحقنا، حيثما ثقِفَنا، وهو بذلك كفيل.
فلنشارك جميعا فى كتابة تاريخ مشرق لبلادنا، قبل أن يسجل التاريخ أسماءنا بمداد قاتم فى صفحاته المظلمة.