لم تكن مكناس مدينةً عابرة في سيرة الضباط الموريتانيين، بل كانت زمناً مكثفاً، وذاكرةً مشتركة، ومعملاً صامتاً لإعادة تشكيل معنى القوة. هناك، خارج خرائط السياسة الرسمية، تشكّلت خلية لم تُعلن بيانها الأول، لكنها كتبت أثرها في صلب تاريخ موريتانيا ما بعد انقلاب 2005. لم تكن «خلية مكناس» مجرد تجمّع مهني لضباط تلاقت مساراتهم، بل كانت سردية كاملة عن الدولة وهي تعيد تعريف نفسها بالسلاح، ثم تحاول—متأخرة—أن تتذكّر السياسة.
في لحظة انقلاب 2003 الفاشل، بدا أن مكناس خرجت من الظل. سحق الانقلاب لم يكن فعلاً أمنياً محضاً، بل كان إعلانَ أهليةٍ غير مكتوب: نحن الحارس الأخير للنظام. ومنذ تلك اللحظة، انتقلت الخلية من الهامش إلى المركز، من التكنيك العسكري إلى الحق السياسي في التقدّم والتمثيل، لتصبح لاحقاً أحد الأعمدة غير المرئية لانقلاب 2005 وما تلاه.
غير أن التاريخ لا يحب الكتل الصلبة طويلاً. اليوم، يتبدّى ميراث مكناس مفككاً مثل خارطة قديمة: حاكمٌ يمسك بخيوط الدولة، وآخرون توزّعوا بين التقاعد، والسجن، والصمت الثقيل. ومع ذلك، لا تزال أربعة أسماء من رحم الخلية تمثل أثقل وزنها النوعي: الرئيس السابق، والرئيس الحالي، ووزير الدفاع، ورئيس البرلمان السابق ولد باي. أربعة مواقع سيادية، لكنها لا تجتمع في مشروع واحد، بل تتجاور كجزر نفوذ منفصلة، يربطها الماضي أكثر مما يجمعها المستقبل.
استراتيجياً، يمكن القول إن مكناس أنجزت مهمتها التاريخية: تأمين انتقال السلطة داخل المؤسسة العسكرية ومنع الانهيار الشامل للنظام. لكنها، في المقابل، فشلت—أو لم تحاول—في تحويل هذا الإنجاز إلى عقد سياسي مدني مستدام. فقد أدارت الدولة بمنطق الثكنة، لا بمنطق المدينة؛ بمنطق السيطرة، لا بمنطق التمثيل. وهنا تحديداً بدأ التآكل: حين طال أمد العسكرة، ولم تُفتح نوافذ التمدين.
سياسياً، لم تعد مكناس قادرة على العودة بصيغتها القديمة. فالشروط تغيّرت: مجتمع أكثر تطلعاً للمشاركة، نخبة مدنية تبحث عن معنى، وسلطة تحتاج إلى شرعية تتجاوز الزي العسكري. العودة الممكنة—إن وُجدت—لن تكون عبر انقلاب ناعم أو اصطفاف أمني، بل عبر تفكيك الإرث نفسه: نقل الخبرة من منطق الضبط إلى منطق الحكم، ومن حماية النظام إلى بناء الدولة.
السؤال، إذن، ليس هل ستعود مكناس، بل: بأي لغة؟
هل تعود باعتبارها ذاكرة تصحّح أخطاءها، وتقبل بالتقاعد الرمزي للسلاح، لتمنح السياسة فرصة أن تكون مدنية بحق؟ أم تبقى أسيرة لحظة مجيدة مضت، تتحول فيها القوة من وسيلة تاريخية إلى عبء استراتيجي؟
بين التفكك والتقاعد، يقف ميراث مكناس على حافة المعنى: إما أن يعيد اكتشاف المدينة بعد طول إقامة في الثكنة، أو أن يكتفي بأن يكون درساً قاسياً في تاريخ السلطة حين تطول الإقامة في البندقية.
#الحسانية