من أسرار المعجم التاريخي للغة العربية إبحار في عوالم الشاهد الاستعمالي../ د.السملالي

2025-12-23 19:43:57

بحث منشور في مجلة مجمع اللغة العربية بالشارقة، يوضح بعض خفايا العمل المعجمي:

من أسرار المعجم التاريخي للغة العربية

إبحار في عوالم الشاهد الاستعمالي

د. محمد الأمين السملالي

خبير في المعجم التاريخي

تقديم:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

يمثّل الشاهد الاستعماليّ عنصراً واحداً من عناصر البطاقة المعجمية في عملية تحرير المعجم التاريخي للغة العربية، ولكنه هو العنصر الأهم، وهو الجسم الذي تسري فيه روح المعاني دلالةً على حيويّة اللغة واستمرارها. والتّعامل مع الشاهد المذكور، يشبه عملية استخلاص الذهب أو تصفيته، لكي نُحصّل منه في النهاية سبيكةً لامعةً تسر الناظرين. ويقتضي ذلك من المحرر أن يتوقف باهتمام عند المسائل التالية:

1. تحقيق نسبة الشاهد إلى قائله من أجل التحقق من التاريخ الذي ينتمي إليه. 

3. توثيق الشاهد من أقدم المصادر، توخّياً للدقة وطلباً للصحة. 

2. تصحيح ألفاظ الشاهد وتخليصه من الأخطاء والتصحيفات والتحريفات. 

4. صياغة تقديم مختصر ومناسب، اعتماداً على سياق النص. 

ومن خلال الشاهد التالي، سوف نعرض للقارئ الكريم نموذجاً من تلك الخطوات، ليرى كيف تتم العمليات العلمية المعقدة أحياناً قبل أن يخرج الشاهد المختار إلى النور، والشاهد هو قول الشاعر: 

ومَشْمولَةٍ رَقَّتْ وراقَتْ فأَصْبَحَتْ

   عَلى الشَّرْب تَزْهو حينَ تُجْلى عَلى الكاسِ

مُعَتَّقَةٌ ما شُمِّسَتْ بَعْدَ عَصْرِها

     لإثْمٍ، وكَمْ فيها مَنافِعُ للنّاسِ

ولا عُصِرَتْ يَوْمًا بِرِجْلٍ وَكَمْ لَها

   إِذا ما أُديرَتْ مِنْ صُعودٍ إِلى الرّاسِ

تحقيق النسبة وتوثيق المصدر:

لقد وجدنا الشاهد المذكور في أربعة مصادر، نبدأ بأحدها عشوائيّاً وهو: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لابن حجر العسقلاني (ت: 852هـ)، فنجده ينسب الشاهد إلى: (يحيى بن أَحْمد بن مسعر الكفرطابي شرف الدّين القَاضِي أَبي سَالم المعري، ت: 707هـ)، ولكن ابن حجر يعزو الشاهد عن طريق الذَّهبي، مما يجعلنا ملزَمين بالرجوع إلى الذهبي نفسه للتحقق. ولكن قبل ذلك لننظر في مصدر آخر وهو: أعيان العصر وأعوان النصر، لابن أيبك الصفدي (ت: 764هـ)، فنجده ينسب الشاهد إلى شخص مختلف، وهو (القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، ت: 680هـ)، ثم ننتقل إلى مصدر آخر وهو: مطالع البدور في منازل السرور، للبهائي الدمشقي (ت: 815هـ)، فنجده ينسب الشاهد إلى اسم ثالث هو (مجير الدين بن عبد الظاهر)، وهو قريب من سابقه، مما يرجح لدينا أنه هو القاضي السابق نفسه وإنما تصحفت (محيي) إلى (مجير)، لأننا لم نجد ذكراً للاسم الأخير في تراجم القضاة.

لم يبق لنا الآن إلا أن نرجع للمصدر الأساسي، الذي يبدو أنه هو أقدم من ذكر الشاهد وهو: معجم الشيوخ الكبير، لأبي عبد الله الذهَبيّ (ت: 748)، وبقراءة النص كاملاً يتّضح -بيقينٍ- أن صاحب الشاهد هو شخص رابع غير الثلاثة المذكورين، يقول الذهبي في ترجمة شيخه قاضي (كفرطاب): "‌‌يَحْيى بنُ أحمد بنِ مِسْعَرٍ، الفَقيهُ الإِمامُ شَرَفُ الدّينِ أَبو سالِمٍ المَعَرِّيُّ المِسْعَرِيُّ الشَّافِعِيُّ، قاضي كَفرطاب. تُوُفِّيَ كَهْلاً في حُدودِ سَنَةِ سَبْعٍ وَسَبْعِمِائَةٍ. أَنْشَدَنِي أَبُو سَالِمٍ يَحْيَى بْنُ أَحْمَدَ بِسِرْمِينَ، قال: أَنْشَدَنا أَبو جَلْنَكَ أَحْمَدُ الأَدِيبُ فِي مَقْدَشاوِيَّةٍ، وأَجادَ في التَّوْرِيَةِ"، ثم ذكر الأبيات. 

إذن فصاحب الشاهد هو الشاعر شهاب الدين أبو العباس، المعروف بـ (أبي جَلَنْك الحَلَبِيّ، ت: 700هـ=1301م). وما وقع في (الدرر الكامنة) إنما هو وهمٌ ناتج عن رواية القاضي المذكور للأبيات. أما الوهم الواقع في (أعيان العصر) فلم يتضح لنا تفسيره، ويبدو ما في (مطالع البدور) تقليداً له، مع زيادة تصحيفٍ آخر.

وهكذا يكون تاريخ الشاهد في هذه الحالة مرتبطاً تلقائيّاً بوفاة الشاعر، باعتباره واقعاً قبلها قطعاً؛ لأننا لم نجد قرينة محددة غيرها.

تصحيح النص:

أما عن تصحيح ألفاظ الشاهد، فإننا نجد أغلب المصادر تشترك في التقصير في ضبط الشاهد، مع أن فيه ما يحتاج للضبط، مثل (الشَّرب) بفتح الشين، لأنها هي التي تُحقق التورية المطلوبة، كما سيأتي، ولكن أكثرها أخطاءً هي طبعة (معجم شيوخ الذهبي، تح: روحية السيوفي، ص: 641)، فقد ضبطت (الكأس، الرأس) بالهمز، ووافقها المحقق الآخر الحبيب الهيلة، في (الرأس)، ولا يخفى أن ذلك يفسد القافية، وأن الصواب بإبدال الهمز ألفاً، خصوصاً أنه يريد التورية بين "الكأس" التي للشراب، و"الكاسي" الذي يكتسي بالعمامة، ولكن يغتفر له حذف الياء في هذه الحالة، من أجل تعقيد اللغز والتورية، وأما الرأس أيضا فإبدالها ضروري لأن الألف هي حرف الرّدف في القافية. ثم يضاف إلى ذلك الخطأ في ضبط (تُجْلَى)، حيث نقطت الياء، لتتعين قراءتها: (تُجْلِي)، فتتحول من بناء المجهول إلى بناء المعلوم، وبذلك يفسد المعنى كما لا يخفى. ثم زادت على كل ذلك بتحريف عبارة التقديم من (فِي مَقْدَشاوِيَّةٍ) إلى (في مقر شاوِيَة)، حيث صارت بلا معنى أيضاً.

صياغة التقديم:

بعد تصحيح ألفاظ الشاهد، نبدأ في جولة أخرى من أجل استكناه معنى الأبيات وموضوعها، لكي نتمكن من صياغة التقديم، الذي يعين القارئ على فهم السياق الاستعمالي للشاهد، وتنزيله على المعنى الذي سيق له. حينها يتبين أن الشاعر يستخدم التورية من أجل الإلغاز عن شيء معين، فاستخدم أوصافا مناسبةً للخمر، وهو يقصد شيئاً آخر مختلفاً تماماً. وقد اختلفت عبارات المصادر في ذلك؛ أما الذهبي (المصدر الأساسي) فجعل المورّى عنه: "مقدشاويّة"، وأما الصفدي فجعله: "لِسان الحَريرِ الَّذي يَسْتَعْمِلهُ المِصْرِيّون في عَمائِمهم"، وأما البهائي فجعله "شملة"، وأما ابن حجر فجعله " فوطة شاشية". 

فنحن إذن أمام أربعة احتمالات؛ أولها: المقدشاوية؛ والتي يظهر أنها تعني النسبة إلى (مقديشو) دون زيادة على ذلك، ونعلم من خلال ابن بطوطة مثلاً (ت: 779هـ) أن مقديشو في ذلك العصر كانت "تصنع الثياب المنسوبة إليها التي ‌لا ‌نظير ‌لها، ومنها تُحمل إلى ديار مصر وغيرها". والثاني: لسان الحرير، الذي عبر به الصفدي، وإن لم نجده في مصادر أخرى، لكنه تعبير أكثر وضوحاً، إذ يحيل إلى منسوجٍ حريريٍّ يوضع تحت العمامة. والثالث: الشَّملة، وهي في اللغة تعني الثوب الذي يَشتَمل به الإنسان، أي يلفُّهُ عليه؛ قال ابن سيدة: "الشَّمْلة: كِساءٌ دُونَ القَطِيفة يُشْتَمل بِهِ"، فهي أيضاً عبارة عمومية لا تفيدنا. وبقي الاحتمال الرابع: الفوطة الشاشية، فنجد أن الفوطة أيضاً مثل الشّملة، وهي كلمة معرّبة من أصل سِنْدِيّ، وتطلق على "ثياب تُجلب من السند، الواحدة فُوْطَةُ، وهي غلاظ قصار تكون مآزرَ". ولكن الفوطة فيما يبدو قد استعملت أيضا في العمائم، حيث نجد المقريزيّ (ت: 845ه) يصف أحد مواكب الملك الظاهر بالقول: "وركب الظاهر في موكب إلى المقس ‌بعمامة شرب ‌مفوطة بسواد". أما الشاشيّة فهي الطاقية التي تلف عليه العمامة. 

فالخلاصة إذنْ أن المُوَرّى عنه (المُلغَزَ به) في الأبيات هو جزءٌ مِن مكوّنات العمامة، ربّما انتشر استعماله في حدود القرن الثامن، وعليه يمكن الاستعانة بتعبير الصفدي بوصفه أكثر توضيحاً وتفصيلاً.

استطراد خفيف:

وإذا كنا بهذا القدر قد توصلنا إلى تقديم مناسب للشاهد، فإن من تمام الفائدة الأدبية والبلاغية أن نعرج -بإشارة خفيفة- على وجه التورية المرشَّحة التي استخدمها الشاعر، والتّورِيَةُ -كما هو معلوم- ضربٌ من البديع المعنويّ، وتعريفُها: "أنْ يُطلَقَ لفظٌ له معنيان، قريبٌ وبعيدٌ، ويراد البعيد". ففي حالتِنا المعنى القريبُ هو الخمر، والبعيد هو لسان الحرير الذي يحول بين العمامة والطاقية، فاستخدم الشاعر ألفاظاً تصلح للمعنيين على النحو التالي: 

مشمولة: من أسماء الخمر، وهي في الأصل وصف للخمر التي طرحت حتى أصابتها ريح الشمال، ثم صار اسما غالباً عليها. وأما في المعنى البعيد فتصلح وصفاً لكل ثوب يُشتَمَل به، ومنه العمامة وملحقاتها. 

رقّتْ وراقَتْ: وصفان يصلحان للخمر وللثياب أيضا، خصوصاً ثياب الحرير. 

الشَّرْب: في الأصل اسم جمعٍ لشارب الخمر، كالرّكْب والصحب، والشَّرب أيضاً الكتّانُ الرقيق، تصنع منه أنواع من العمائم الملونة.

الكاس: كأس الخمر التي تشرب بها، والكاسي أيضاً الشخصُ المكسُوُّ باللباس، من عمامة أو غيرها. وهنا اختلف اللفظان في الرسم، لكن تغليباً لجانب الإلغاز، تسقط الياء ويُكتب اللفظ على ما يوافق المورّى به، كما هو مذكور في كتب الإملاء.

معتقة: وصفٌ للخمر التي تُترك حتى تتقادم، وذلك أجودُ لها، كما أن العتيق من كل شيءٍ هو الكريم الأصيل. 

ما شُمّست: التشميس (وهو محل الشاهد في إيراد الأبيات): مصطلح معروف في استخدام الخمر، ويعني تعريضها للشمس حتى تتخلل، فيذهب عنها الإسكار. والتشميس في الثياب أيضاً: تعريضها للشمس، وهو هنا منفيٌّ لأنه يدلّ على كثرة الاستعمال.

عصرها: العصر في حق الخمر: هو صناعتها واستخلاصها، وفي حق الثوب هو تنشيفه بعد الغسل.

أديرت: إدارة الخمر تعني أن يدور بها الساقي على النّدامى، وأما إدارة العمامة فهي تكويرها على الرأس. 

صعود إلى الراس: تصعد الخمر في رأس شاربها فتُسكره، كما تصعد العمامة على رأس صاحبها فتُزيّنه.

بعض الفوائد المستخلصة: 

إذا كان الشاهد قد سيق لمقصد لغوي معجمي، يثبت استخدام معنى التشميس في سياق حيّ في عصر معين، فإن هذه الجولة قد أتاحت لنا -على الهامش- مجموعة من الفوائد اللغوية وغيرها، نُجملها على النحو التالي: 

استدراك الأوهام المتنوعة في نسبة الشاهد إلى غير صاحبه، مما يؤكد ضرورة التزام الباحث العلمي دائماً بالرجوع إلى أقدم مصدر لتحقيق المعلومة.

استدراك الأخطاء المطبعية الواردة في الشاهد في عدة طبعات، وأبرزها الطبعة الثانية من (معجم الشيوخ) للذهبي. 

الوقوف على استعمال نادر لم نجده عند غير الذهبي (في ما نقل عن شيخه)، وهو لفظ (مقدشاوية)، الذي يبدو أنه قد صار اسماً متمحضاً لنوع من القماش في ذلك العصر.

استدراك وهم وقع فيه د. الحبيب الهيلة، محقق معجم الشيوخ للذهبي، حيث عرّف المقدشاوية بأنها: (امرأة من مقديشو). 

الوقوف على استعمال نادر لم نجده عند غير الصفدي في (أعيان العصر)، وهو لفظ (لسان الحرير)، الذي يبدو أنه صار جزءًا من مكوّنات العمامة في ذلك العصر.  

في كتابه (آفاق الشعر العربي في العصر المملوكي)، أورد د. ياسين الأيوبي الأبيات المذكورة، ووقع في خطأين؛ أحدهما تقليده لابن حجر العسقلاني في نسبة الأبيات إلى القاضي الكفرطابي، والخطأ الثاني في فهم الأبيات، حيث عدّها أبياتاً خمريّةً بالأساس، قائلاً: "ومثله قول شرف الدين الكفرطابي ... واصفاً زهو الخمر وهي ترقّ عن الماء وتجلى على الكأس" إلخ.

خاتمة: 

لعل هذا التطواف السريع يوضح لقُرّاء المعجم التاريخي، جانباً من القيمة العلمية والتاريخية الكبرى لهذا المشروع، ويوضح أيضاً أن ما خفي من التحقيق العلمي أكثر وأعظم مما يظهر كثمرةٍ على طرف الثمام يلتقطها القارئ جاهزةً منقحةً منتقاةً. 

فالمعجم التاريخي في الحقيقة هو أشبه ما يكون بالأبراج العملاقة التي تناطح السحاب، يراها الرائي فيتعجب من شموخها وعظمتها، ولا يدري أن الأساس الذي تقوم عليه هو ذلك الجزء العظيم المختفي تحتها في أطباق الثرى، وعليه فإن هذا التحقيق العلمي الذي يحيط بأغلب الشواهد الاستعمالية، لو قُدّر له أن يطبع مع المعجم لجاء المشروع في مئات المجلدات. 

المصادر: 

أبو عبد الله الذهَبيّ، معجم الشيوخ الكبير. (1408هـ) تح: محمد الحبيب الهيلة، مكتبة الصديق، الطائف، المملكة العربية السعودية، ط: 1، ج: 2، ص: 368.

ابن أيبك الصفدي، أعيان العصر وأعوان النصر. (1418هـ)، تح: علي أبو زيد وآخرين، دار الفكر، دمشق، ج: 4، ص: 520.

ابن حجر العسقلاني، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة. ج: 6، ص: 179.

البهائي الغزولي، علاء الدين، مطالع البدور في منازل السرور. (1299هـ)، ط: 1، إدارة الوطن، ج: 1، ص: 158.

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122