منذ أن تساءل أدونيس عما إذا كان يمكننا أن نكتب التاريخ من جديد (خاليا من أخطاء الأمس)، فتح الباب أمام مراجعة فلسفية عميقة لمفهوم التاريخ ذاته. فالتاريخ، كما يقول ميشيل فوكو، ليس ماضيا يروى بل سلطة تعاد إنتاجها، والكتابة ليست حفظا لما مضى بل تحرير للعقل من ذاكرة الاستبداد.
وفي هذا الأفق، يفرض السؤال نفسه في موريتانيا اليوم
هل يمكن أن نكتب تاريخنا من جديد، خاليا من أخطاء الأمس، وبمنهجٍ يرى الحقيقة كما هي لا كما تراد له أن ترى؟
رأى أدونيس أن التاريخ العربي كتب بمنطق الطاعة لا الحرية، وبمنهج الفقيه لا بعين الإنسان. دعوته إلى كتابة التاريخ من جديد كانت ثورة على هذا النمط المغلق من الوعي، لأنه رأى أن (الكتابة الحقيقية ليست تكرارا للماضي، بل اقتراح للمستقبل).
فهو لا يدعو إلى نسيان الماضي، بل إلى تحرير الذاكرة من قيودها، وجعل الإنسان محور التاريخ لا الهامش.
من هنا، يصبح التاريخ الجديد مشروعا ثقافيا لا سياسيا فقط، يتطلب إعادة النظر في لغة السرد، ومصادر الذاكرة، وموقع الفرد من الجماعة.
في الحالة الموريتانية، ما زال التاريخ أسير رواية رسمية تُمجّد المركز وتُقصي الأطراف، تُبرز السلطان وتُهمّش المواطن.
تاريخ المقاومة ضد الاستعمار، والتحولات الاجتماعية، وصوت الطبقات الشعبية، ومعاناة السياسيين من الحركات الايدلوجيه والمهمشين — كلها فصول لم تكتب بعد كما ينبغي.
فالكتابة التاريخية لدينا كثيرا ما جاءت انتقائية، تكرس ذاكرة النخبة وتهمش الذاكرة الشعبية.
لذلك، فإن إعادة كتابة التاريخ ليست ترفا فكريا بل فعل إنقاذ للذاكرة الجماعية من التكلس والنسيان.
فالوعي هوشرط للتحرر التاريخي كمايقال
(تبدأ الحرية حين ينتهي الجهل، لأننا لا نمنح الحرية لجاهل كما لا نمنح السلاح لمجنون)
هذه العبارة تختصر المعادلة الكبرى للتاريخ الموريتاني لا يمكن لأي مجتمع أن يعيد كتابة تاريخه وهو غارق في الجهل.
فالحرية ليست منحة تمنح، بل وعي يُكتسب. ومن دون وعي نقدي، تصبح الكتابة إعادة إنتاج لأخطاء الأمس بلغة جديدة.
إن التحرر الفكري هو الشرط الأول لأي تحرر تاريخي، فالشعب الذي لم يحرر وعيه من الخوف لا يستطيع أن يكتب تاريخه بصدق.
الحرية من دون معرفة تتحول إلى فوضى، والمعرفة من دون حرية تتحول إلى عبودية فكرية.
ومن هنا، يبدأ مشروع (الكتابة الجديدة) من تنوير العقول قبل تحرير النصوص.
الكتابة الجديدة للتاريخ ليست عملا أرشيفيا بل موقفا أخلاقيا ومقاومة فكرية.
فكل قلم يواجه التزوير يعلن ثورة على الصمت، وكل باحثٍ يفتش في ذاكرة القرى المطموسة يعيد للإنسان مكانته.
التاريخ الذي نحتاجه هو تاريخ المواطن لا السلطان، تاريخ من بنوا الوطن لا من حكموا فوقه.
وحين نكتب بهذه الروح، فإننا نعيد للحقيقة هيبتها، وللإنسان كرامته.
وهنا يصبح التاريخ رسالة تحرر، لا وثيقة رسمية تحفظها أدراج الوزارات.
إعادة كتابة التاريخ الموريتاني مشروع وطني يستند إلى أسس فكرية وثقافية واضحة
- نقد السرديات الرسمية التي تختزل الوطن في السلطة وتُقصي المجتمع.
- دمج الذاكرة الشعبية والشفهية في مناهج التعليم والبحث الأكاديمي.
- إعادة قراءة رموز المقاومة والمجتمع بعين نقدية عادلة تحترم تعدد الانتماءات.
- إحياء الفكر التقدمي الإنساني الذي يجعل من المواطن محور التنمية والوعي.
- تحرير الباحث من الخوف والولاء، وجعل البحث العلمي فعلاً من أفعال الحرية الوطنية.
هكذا فقط يمكن أن يصبح التاريخ مدرسة للوعي، لا أداة للهيمنة أو التزييف.
حين قال أدونيس (لنكتب تاريخنا من جديد خاليا من أخطاء الأمس)، كان يدعو إلى ثورة في الوعي قبل ثورة في الحبر.
واليوم، ونحن نعيش تحولات عميقة في موريتانيا، لا بد أن نعيد قراءة ذاكرتنا بعين العقل لا العاطفة، وبقلم الإنسان لا خطاب السلطة.
إن كتابة التاريخ من جديد واجب وطني وأخلاقي، لأن الأمم لا تنهض إلا حين تملك شجاعة النظر في مرآتها، وتقول بصدق
لقد أخطأنا… فلنكتب من جديد، هذه المرة بعقل حرّ وضمير مستنير.
قاسم صالح