خطوةٌ أثارت منذ ساعاتٍ سيلًا من التعاليق والتأويلات؛ تيارًا جارفًا لم تَسلم منه حتى خواطرُ كاتب هذه السطور التي تتدفق في ذهنه بوتيرةٍ عالية.
العملية فتحت الباب أمام سلسلةٍ من التساؤلات الجوهرية:
هل تدخل المنطقة مرحلةَ تهدئةٍ قد تدوم؟ أم أن ما حدث ليس سوى استراحةٍ قصيرة قبل جولةٍ أعنف من المواجهة؟
فالحدث في جوهره ليس مجرد تبادلٍ إنساني، بل تحوّلٌ سياسيٌّ عميق أعاد شيئًا من ترتيب موازين القوى في غزة، وأربك الحسابات الإسرائيلية والأمريكية على حدٍّ سواء.
حماس: حضورٌ لا يُستهان به رغم الركام
تؤكد عملية الإفراج – الناجحة بكل المقاييس – أنّ حماس، رغم الدمار الهائل، ما تزال قوةً ميدانية وتنظيمية قائمة يصعب تجاوزها أو استئصالها.
فمنْ كان كثيرون يظنونه قد انتهى تحت الأنقاض، عاد إلى المشهد لاعبًا رئيسيًا في التفاوض.
الرسالة واضحة: الكيان المقاوم لم يُكسر، وأيُّ حديثٍ عن "اليوم التالي لغزة" دون حماس يبدو وهمًا سياسيًا.
عقدة المرحلة الثانية: ما بعد الرهائن
من المرجَّح أن تتحول هذه الخطوة الإنسانية إلى ذريعةٍ سياسيةٍ تتخذها إسرائيل لاستئناف حربها ضد الفلسطينيين في غزة، وفي الضفة أيضًا.
فبعد أن حققت إدارة ترامب هدفها المباشر بتحرير الرهائن، قد ترى تل أبيب في ذلك فرصةً لإعادة فرض منطق القوة بحجة "استكمال العملية" و"القضاء على البنية التحتية للإرهاب".
غير أن العالم تغيّر: الشرعية الأخلاقية الإسرائيلية تتآكل، وصور الدمار جعلت من الحرب القادمة معركةً في ميدان الرأي العام بقدر ما هي في الميدان العسكري.
العزلة الإسرائيلية ومأزق الحلفاء
لقد كشفت حرب غزة الأخيرة هشاشة السردية الإسرائيلية أمام العالم، وأعادت إلى الأذهان صورة نظام الأبارتايد (الفصل العنصري) في جنوب أفريقيا قبيل سقوطه.
ومع تزايد الإدانات الشعبية والحقوقية، يجد الحلفاء الغربيون أنفسهم في مأزقٍ أخلاقيٍّ غير مسبوق: هل يواصلون دعمهم غير المشروط لكيانٍ متّهمٍ بجرائم موثقة وممارسات مفضوحة؟
أم يبحثون عن مخرجٍ سياسي يجنّبهم تبعات العزلة؟
إسرائيل اليوم ليست في خطرٍ وجوديٍّ عسكري، لكنها تواجه خطر العزلة الأخلاقية والدبلوماسية، وهو الأشد فتكًا في زمن تحكُّم الصورة والرأي العام.
شرم الشيخ ونزع السلاح: الطاولة المليئة بالألغام
ستكون قمة شرم الشيخ اختبارًا حقيقيًا لقدرة القوى الإقليمية على مقاربة الملف الفلسطيني بعيدًا عن الإملاءات الخارجية – الأمريكية والغربية.
فقضية نزع سلاح حماس ستحتل موقع الصدارة في النقاش، لكنها ستُواجَه بأسئلةٍ يصعب تجاهلها، خصوصًا على المشاركين العرب والمسلمين الذين يشكّلون تقريبًا نصف الوفود الحاضرة:
كيف يُطلَب من حركةٍ ما زالت تحت القصف أن تُسلِّم سلاحها؟
ومن يضمن أمنها وأمن مواطنيها المدنيين في ظلِّ غياب أيِّ وازع أخلاقي لعدوها أو حلٍّ سياسيٍّ شامل لقضية شعب ووطن تحمل رايتهما؟
إنّ البحث عن تهدئةٍ دون معالجة جذور الاحتلال ليس سلامًا، بل تجميدٌ مؤقتٌ للألم.
انتصارٌ في السرد وفي الضمير الإنساني، وخسارةٌ في الجغرافيا
على المستوى الدولي، شكّل ما حدث نقطة تحوّلٍ في الخطاب الفلسطيني: من موقع الضحية إلى موقع الفاعل القادر على فرض شروطه في الميدان والسياسة.
غير أنّ هذا المكسب الرمزي يقابله تراجعٌ ميدانيٌّ مؤلم داخل غزة نفسها، أبرزُ تجلياته: تصفية الكودر والمقاتلين، التقتيل والدمار الواسعين، التهجير، الانهيار الإنساني.
لكنّ الفكرة – كما هو معروف – لا تُقصف.
خلاصة
ما دامت إسرائيل تُصرّ على إنكار حقِّ الفلسطينيين في الحر ية والكرامة، وتُمعن في عبادةِ القوّة ضدهم، يبقى السؤال مفتوحًا على المجهول:
الطوفانُ القادم… متى؟ وكيف؟
لا أحدَ يعرف...
لكنه آتٍ لا ريب فيه، وربما لا يكون طوفانًا واحدًا، بل طوفاناتٍ تتعاقب كالأمواج أو تتزامن:
عسكريةٌ تهزُّ الأرض،
وسياسيةٌ تُربك الحسابات،
وأخلاقيةٌ تُحرج الضمائر،
ودوليةٌ تُعيد ترتيب العالم.
المشهدُ إذن مفتوحٌ على كلّ الاحتمالات،
لكنّ المؤكّد أنَّ غزّة لم تنتهِ،
وأنَّ في رمادها جمرات لا تموت،
تُخاطب العالم وتُنذره:
"ما زلنا هنا… وسنبقى".
عقيد ركن (متقاعد) البخاري محمد مؤمل