⸌️ حق الرد
رواية العقيد محمد الفايده… حين تميل اللبنة، فتنهار العمارة
من كان أكثر إنسانية حين امتلك القرار؟ العقيد الفايده أم الفريق البرور؟
ليس من الهيّن أن أكتب ردًا على عقيد مخضرم، وسياسي واسع التجربة، دارت كلماته في اتجاهات متعددة، لكن بوصلتها المركزية كانت نحوي...
ومع أنني أختلف مع ما قدّمه، فإن من الأدب والانضباط ألا أتجاهل ما قاله، وأن أختار لردّي طريقة تشبهني، وتدع الحكم للرأي العام.
في ميادين الحرب، كما في ساحات القول،
لا يصمد بناء قام على لبنة معوجة...
العمارات الشاهقة تنهار أحيانًا بسبب حجرة وُضعت على غير استقامة،
كما حدث في "برج سيرفسايد" بولاية فلوريدا سنة 2021،
حين سقط المبنى السكني فجأة، لأن لبنة تحت الأرض لم تُراقب كما ينبغي،
فانهار الطابق الأرضي، ثم سقطت فوقه 12 طابقا... في لحظات.
هكذا يكون مصير أي رواية تُبنى على وهم.
وحين يُقال كلام يعلم الناس جميعا أنه غير صحيح،
تفقد المداخلة صدقيتها، ويهوي منطقها قبل أن يبلغ السقف.
وقد كان جوزيف غوبلز، وزير الدعاية في ألمانيا النازية،
-صاحب المقولة الشهيرة: "اكذبوا الكذبة، ثم كرروها حتى يصدقها الناس".
- وهو يبني سرديته، كان يحرص على أن يروي الأحداث المعروفة كما هي،
حتى لا تنهار الرواية من أول اختبار، أو تفقد تماسكها عند أول تدقيق.
وفي حالتنا، حين يُروى السرد كله بصيغة "أنا"... أنا فعلت، أنا أمرت، أنا تدخلت، ثم تُختم المداخلة بكلمة يعرف الجميع أنها لا تمتّ للحقيقة بصلة،
فما الذي يُرجى من رواية هذا ختامها؟!
وإنه من شيم الميدان أن نُصيب في القول أو نُصوّب، لا أن نترك الكلمة تتعوّق في الذاكرة...
لقد ختم العقيد مداخلته بادعاءٍ يجانبه الصواب،
ويعلم العام والخاص أنه لم يقع، إذ زعم أنه تدخّل لصالحنا لدى المرحوم العقيد أحمد ولد منيه، قائد الأركان في نوفمبر 1995،
بينما المرحوم، كما جاء في الجريدة الرسمية المرفق نصها، تم تعيينه وزيرا للداخلية في المرسوم 056/91، الصادر بتاريخ 27 يوليو 1991، بعد مغادرته قيادة الأركان. وقد جاءت تلك المغادرة إثر وشاية جعلت الرئيس يُزيحه، ولن أخوض في تفاصيل ذلك الموضوع.
فإذا اختلت هذه الحقيقة المعلنة والمنشورة، فما الذي يبقى من بقية الرواية؟
أما الرواية كما كنتُ شاهدا عليها، فقد بدأت في أكتوبر 1995، ففي أجواء مشحونة،
كان النظام يبحث عن منفذ جديد يُرضي به لوبيات خارجية،
فأراد أن يقطع ما تبقّى من خيوط العلاقة مع العراق بعد حرب الخليج،
ويفتح نافذة جديدة نحو اللوبي اليهودي المتنفّذ.
وفي هذا السياق، خرج وزير الداخلية ببيان عبر الإذاعة والتلفزيون، يتّهم مجموعة من "الأشرار "، يعني البعثيين، بالسعي لزعزعة النظام وارتكاب "الخيانة العظمى".
وفي اليوم نفسه، 23 أكتوبر 1995، تم اعتقالي من وحدتي العسكرية في "عدل بكرو"، بعد ساعات قليلة من إذاعة البيان، ونُقلت مباشرة إلى مدينة النعمة، ثم أقلّتني طائرة عسكرية من هناك إلى مطار نواكشوط، وكان العقيد في انتظاري على سلّم الطائرة، محاطا بعمالقة من القوات المسلحة، في مشهد محسوب بدقة، لا تخطئه أدوات الحرب النفسية.
ومن المطار، اقتيد بي إلى زنزانة ضيقة في "أجريدة"، ثمانون سنتيمترًا على ثمانين، وظلام لا يعرف الصباح،
حُبست فيها 27 يوما تحت ضغط متواصل، وكان هو يردد بعنف: "اعترف أنك تخطط لانقلاب!"
يكررها وهو يكاد يُدخل أصابعه في عيني، ولا أخوض في ممارسات أخرى عرفتها لاحقا من خلال الوثائق،
وشهادات أولئك الذين تقاسموا الجدران والقيود، ولن أخوض فيها، لا حاضرًا ولا مستقبلًا،
وأكتفي بنشر مقال حررته منذ سنوات، أتركه لكم في التعليقات.
ثم أُحلت إلى الدرك، ولا حديث هنا عن ظروف الاعتقال هناك... ومن ثم إلى السجن المدني في بيلَل،
وحكم عليّ ابتدائيًا بستة أشهر مع وقف التنفيذ،
ثم أُسقط كل شيء لاحقا في الاستئناف بعد ستة أشهر من اعتقالي، بفضل القاضي النزيه شغالي، الذي استند إلى عفو 1992.
قال المعني إنني خائن، لأني دخلت الجيش بنيّة انقلاب!
لكن النية، كما يعلم الجميع، لا تُحاكم بمفردها، فقد نوى الرئيس معاوية – أطال الله عمره – أكثر من انقلاب،
من 1978 إلى 1984، ونفّذها... فلماذا تُجرَّم النية هنا وتُبارَك هناك؟!
ثم أي نية تلك التي تتهمونني بها؟ أهي نية التمرد؟ أم نية تغيير واقع البؤس الذي اعترفتم به في خرجتكم؟
نعم، دخلنا الجيش صغارا في السن، لكننا كنّا نحمل شهادات جامعية. ولن أخوض في ظروف أخرى ولا شهادات أخرى.
أذكّركم فقط بحملاتكم الانتخابية داخل الثكنات، وبالانحياز العلني لمرشح دون آخر،
وبما جرى حين اختلّ الانضباط... في الوحدة.
وحين تركتم مهمتكم على طول النهر، لتنخرطوا فيما هو منافٍ لها: حملات انتخابية، واستغلال للنفوذ...
ولن أخوض في أكثر من ذلك.
أما عن الوساطة المزعومة،
فالضباط يعلمون أن التهمة التي كنت أُحاكم بها حينها،
لا يمكن حتى لقائد الأركان نفسه أن يتدخل فيها لصالح أحد،
لأنها تُصنَّف ضمن "الخيانة العظمى"،
وكان ذلك الملف بيد جهات لا تفتح بابها لتوصية ولا وساطة.
وما كان بوسعكم فعله، لو أردتم،
هو فقط ظروف الاحتجاز:
ألا أُحشر في علبة من الأسمنت،
أن يُسمح لي بأن أتمدد، لا أن أُطوى...
لكن، هل فعل ذلك؟
الوحدة ما زال رجالها أحياء،
والزنزانة ما زالت قائمة، تشهد ببؤسها.
...ولكي لا يُظن أنني أحمّل الأمور أكثر مما تحتمل،
أفتح لكم واقعة أخرى:
ففي سنة 1999، وبعد أن بدأت العلاقة المشينة مع ذلك الكيان،
كنت في دورة نقيب بمدرسة الأسلحة المختلفة بأطار،
حين وصلت التعليمات من نفس الجهة،
إلى موقع آخر، وبنفس الرتبة التي كان عليها العقيد المعني عام 1995.
لكن هذه المرة، لم تُترجم التعليمات إلى علبة وزمجرة وأصابع في العيون،
بل استدعاني الفريق البرور إلى مكتبه، حين كان مدير التدريب
وقال لي – بالحرف –: "وصلتنا أوامر باعتقالك في الملف الذي تعرف،
لكنني لن أفعل ما يؤثر على معنوياتك، فأنت الأول في المسابقة، وضابط بثاقب الذكاء...
واصل دورتك، ولا تُخبر قادتك ولا زملاءك،
لكن مساءً ستقابل ضابط الاستخبارات ليحقق معك".
وهكذا كان...
ذهبت كل مساء للتحقيق، دون ضجيج،
وكان تفاعلي مع التحقيق وقتها أكبر من تفاعلي مع تحقيق 1995،
وقد فهمت الفارق لاحقًا، حين استفدت من دورة احترافية في التحقيق بالأردن.
فأي المعاملات كانت مهنية؟
وأيها تُرك فيها الإنسان بإنسانيته؟!
قلتَ إننا "أطفال"...
والتاريخ يخبرك أن محمداً الفاتح، وهو في ربيع الشباب، فتح القسطنطينية وقاد الجيوش دون العشرين،
وأن أسامة بن زيد تولّى قيادة جيش فيه كبار الصحابة وهو ابن ثماني عشرة سنة.
وفي صفوفنا من لا يلتفت للاستهزاء،
ولا يطلب تعريفا من أحد.
وختامًا...
أذكّركم بـ"فتح الأندلس" الجديد الذي تحدثتم عنه مطولا: "الطريق إلى قيادة الأركان"،
إنه انطلق يوم التاسع من يونيو، بعد فشل المحاولة وبقاء جيب مقاومة معزول.
كان من المثير فعلا أن يُرسم هذا الطريق من ملتقى 24، مرورا بدار النعيم،
وكأن من أراد أن يمسك أذنه اليمنى، قرر أن يمد يده اليسرى... عبر الجمجمة!
تقبلوا كامل التقدير والاحترام
أحمد أمبارك