هُوِّيَةُ لَحْرَاطِينْ/ وجْهَةُ نَظَرٍ أخْرىٰ (ح1)../ محمد الهادى الزين

2025-05-06 01:03:46

هُوِّيَةُ لَحْرَاطِينْ/ وجْهَةُ نَظَرٍ أخْرىٰ  عن(مُنْتَدَٰى تَفَاعُلِ العُقَلاَٰء)

    *الحلقة الأولى*

أكتب هذه المشاركة تعليقا على مداخلةٍ للدكتور خالد ولد محمد ولد أسيساح، وصفها بأنها (وجهة نظر علمية تأصيلية)، علق من خلالها على مداخلة للدكتور نور الدين ولد محمدو، وكان هذا الأخير قد ذكر في مداخلته أن لحراطين والبيظان "ألاَّ شِ وَاحَدْ"..

ولما كان وَصفُ د. خالد لمداخلته هو المفترض عندي في مداخلة خبير وباحث، دكتور صاحب اختصاص (أستاذ جامعي في مادة التاريخ والدراسات الإفريقية). فقد أثار هذا التقديم استهوائي، معتقدا سلامة البناء النظري لهذه المداخلة وصحة الإجراءات المنهجية وملاءمتها لمعالجة الإشكال موضوع النقاش، ومُنتظِراً استخلاص نتائج استقراءٍ منطقي وتأصيلٍ علمي وعقلي راجح...

وبعد الاستماع وإعادة الاستماع، قررت مستعينا بالله أن أشارك في هذا النقاش معلقاً بدوري على هذه المداخلة، ومقدماً وجهة نظر أخرى، غير واصفٍ إياها بما وصف به د.خالد وجهة نظره، لكني سأحاول ما استطعت اعتماد منهج البرهنة والاستدلال المنطقي. عملا بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}. البقرة(111). ووِفق قاعدة إمام الحرمين أبو المعالي الجوِّيني: "وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ فَيُقَدَّمُ الْجَلِيُّ مِنْهَا عَلَى الْخَفِيِّ، وَالْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلظَّنِّ، وَالنُّطْقُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ عَلَى الْخَفِيِّ؛ فَإِنْ وُجِدَ فِي النُّطْقِ مَا يُفَسِّرُ الْأَصْلَ، وَإِلَّا فَيُسْتَصْحَبُ الْحَالُ".

وقبل أن أنتقل إلى نقاش الأسئلة الأساسية التي تمحورت حولها مداخلة الدكتور خالد، أراني مضطراً لإبداء الملاحظات التالية:

الملاحظة الأولى: يقول أبو الأسود الدؤلي: لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتَأتيَ مِثلَهُ عارٌ عَلَيكَ إِذا فَعَلتَ عَظيمُ.

في مداخلته أخذ د.خالد على نور الدين عدم استشهاده برأي مفكرٍ أو كاتب أو مؤرخ من لحراطين، رغم إشارته -يقول د.خالد-على محمد فال ولد بلال وعبد الودود ولد الشيخ. 

إلا أن خالد (وقد أتى بما نهى عنه) لم يستشهد برأي مفكر أو كاتب أو مؤرخ من طبقة لحراطين رغم "تَطمَاصِهِ" في الهند والبحرين، حيث ذكر كاتبة هندية ومؤلف بحريني، ومن الطبيعي أن لا يقدم مقال الهندية ولا كتاب البحريني ما ليس له صلة بأصول أو هوية لحراطين...!

ومع أني أجهل أسباب طعن خالد في أهلية محمد فال ولد بلال وعبد الودود ولد الشيخ، وليست له معهم مشكلة كما قال. وإن تفهمت ذلك على أساس بشرتهم، فإني لم ولن أستوعب خوف د.خالد من الاستشهاد برأي مفكر أو كاتب أو مؤرخ من لحراطين و"طليص جَلُّ" على الهند والبحرين، إلا إذا كان على سبيل المثل الحساني: (ألْبَاقِ إكٌولْ شِ مَاهُ أمْقَرَّشْ أعليهْ إبَعَّدْ أشْهُودُ ).

الملاحظة الثانية: من باب رمتني بدائها وانسَّلت، لمَّحَ د.خالد متهماً الثقافة العربية بالعنصرية معللاً بأن العرب لم تلصق صفة العبد بيوسف عليه السلام رغم أن قصة عبوديته جاءت في القرآن الكريم، وبلال وسلمان رضي الله عنهما، اللذين كانت قصة استعبادهما مشهورة أيضاً. لكن الدكتور عاد ليؤكد في موقف مناقض أن العبودية ليست أصلا ولا نسباً لكنها حالة إنسانية تطرأ وتزول.

الملاحظة الثالثة: في بحثه عن هوية مستقلة للحراطين رجَّح الدكتور أن تكون أصولهم ترجع إلى شعوب مختلفة (محلية ومغربية وسنغالية ومالية).

ولم يذكر أصولهم الأندلسية والمصرية والسودانية، هذه الأصول التي ظل لحراطين يتمسكون بما يثبتها كدليلٍ جلي، وهي من أهم خصوصيات لحراطين: 

1- العزف على الناي (النيفارة) وهي آلة شرقية ابتكرها البابليون والمصريون القدماء وهي أساسية في الموسيقى العربية.

(نَفَخَ فِي النَّفِيرِ : فِي الْبُوقِ الَّذِي يُنْفَخُ فِيهِ/ (المعني الجامع)

2- لعبة العصا (لعب الدبوس) وهي لعبة اخترعها الفراعنة وتوارثتها الأجيال المصرية إلى اليوم.

3- العزف على الربابه (أم ازغيبة) وهي آلة شرقية وحيدة الوتر تعزف بالقوس أو النقر بالأصبع. 

ومن أدلة نقاء هذه المميزات أنها مازالت تحيل إلى جذورها في الثقافة العربية دون أي رتوش في أسمائها أو وظائفها.

ولعل ما ذكره الدكتور من اختلاف أصول لحراطين، هو ما يؤكد انتماءهم لمجتمع البيظان ذي الأصول المتنوعة، والأعراق المتعددة، صهرتها عوامل التاريخ والجغرافيا ووحدة الدين واللغة على أديم هذه الأرض قاسية المناخ وصعبة التضاريس، فروَّضوها وعمروها، وأقاموا بها حضارة شاهدة وطوَّعوا صحاري وفيافي لم يطمثها إنس قبلهم ولا جان، وأسسوا عليها بداوتهم العالمة الفريدة، التي بصموا بها على كل سهل ووعر، وكل رطب ويابس في هذه الأرض، ختماً كبصمة البنان لا ينازعهم فيها منازع إلى يوم الدين.

الملاحظة الرابعة: تكلَّف الدكتور عناء البحث في ما سماه تاريخ العوام والشعوب المهمشة و(مصطلحات الكويتي هشام العوض)، وبذل جهدا مضنياً من أجل  "تأصيل علمي"  لوجهة نظره في مسألة هوية لحراطين، حتى جعل من الهوية مسألة اختيارية وتصنيفاً انتقائياً يمكن وضع محدداته عن طريق النسخ واللصق والبحث في المجهول.

بينما هوية لحراطنين تتحدد بكل بساطة ومنطقية وِفق مبادئ وقوانين الهوية (كل شيء هو نفسه ولا يمكن أن يكون شيئًا آخر في نفس الوقت). 

فلحراطين هم -وبكل بساطة-مكونٌ اجتماعي وثقافي يتشارك مع بقية مكونات مجتمعه قواسم متوارثة عبر الأجيال، وروابط جماعية بالأرض والطبيعية والعادات والتقاليد والقيم، حتى تجسد من التراكم عبر تفاعل الزمان والمكان مُجسَّمُ حاضنةِ الانتماء والثقافة والهوية لمجتمع عرف بمجتمع البيظان بمكوناته الاجتماعية ومميزاته الثقافية ومحدداته الجغرافية.

وقد ساهم مكون لحراطين كغيرهم من طبقات المجتمع في نحت ملامح هذا المجسم حفاظا وابتكارا وتطويرا.

وقد ذكرتُ دورهم في المحافظة ضمن الملاحظة الثالثة. أما مساهمتهم في تطوير ثقافة البيظان، فيتجلى في فن المديح الذي أصبح لونا من ألوان الثقافة الحية. 

فمن المعلوم أن "المدح" كانت تمارسه نساء البيظان عموماً تخليدا لذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وعادة لإحياء ليالي الجمعة، وكان إيكاون يبدؤون به حفلاتهم وجلساتهم الموسيقية، لكنه لم يكن فنا ولوناً ثقافيا مستقلا له مجاله وإيقاعه إلا على أيدي لحراطين.

فأي بحث عن "تأصيل علمي" في مجتمع الهوامش والعوام للحراطين !؟

وأي ضرر يمكن أن يلحقه "باحث" بنفسه وبلحراطين أشد من تجشمه عناء البحث ليسلخهم من مجتمع ساهموا في إقامته بمجهودهم الاقتصادي وحضورهم الثقافي فيسلبهم حق الشراكة في موروثه القافي وتراكمه التراثي المشترك، ويلغي حقوقهم ومطالبهم المترتبة على إلغاء التفاوت الطبقي ومحو الفوارق الاجتماعية على قاعدة (ألِّ مَاهُ مَنْ مَدَّه مَا اتْكَٰرَّعْلُ).

ثم إن هذا "التأصيل العلمي" يتعدى ضرره إلى تشتيت المشتت حيث سيفصل العبيد السابقين عن لحراطين لأنه يقوم على مقاربة لا تترك لهم من المشتركات سوى ما يتقاسمه بعضهم من لون البشرة كباقي المجتمع.

 

            *الحلقة الثانية*

قدم الدكتور خالد وجهة نظره حول هوية لحراطين في ثلاثة محاور أساسية، أو بالأحرى من خلال إثارة ثلاثة أسئلة رئيسية هي: 

- ما هو الهدف من دمج لحراطين في هوية البيظان؟

- ماهي أصول وهوية لحراطين؟

- هل للحراطين هوية ثقافية مستقلة عن ثقافة البيظان؟

نعم، هذه الأسئلة قد تبدو مثيرة وغريبة لمن يقف عند الجوانب السلبية من دوافع إثارتها، أي لمن يرى بدافع الغفلة أو الإهمال والكسل أو نقص الوعي، بعدم الفائدة من استهلاك الوقت والطاقة في نقاش علائق وقوالب اجتماعية جامدة، وُجدت كحاضنات وروابط جاهزة مُسبقًا كأنها قد صممت ونسجت بلا مبرر ولا تفسير !!!

لكن المجتمعات، كل المجتمعات تعتمد في بقائها واستمرارها وأمنها وحماية مجالها العام على مستوى قوة وتماسك قوالبها الاجتماعية، وملائمة هذه القوالب والعلائق لأسباب تطورها وازدهارها، وعليه فإن ترميم أي شرخ قد يتسبب في ضعف جدار القالب الاجتماعي وتعديل أي خلل في تصميمه ليتلاءم مع مقتضيات العصر في الأخذ بأسباب التنمية والازدهار، هو مسؤولية عقلاء المجتمع ونخبته المؤمنة الواعية. وقديما قيل: (إن تجاهل القضايا الهامة يؤدي إلى ما يعرف ب "الفيل في الغرفة" أي تجاهل المشاكل الواضحة الخطرة) وأي خطورة أعظم من أن تتعلق المشاكل بوحدة المجتمع وهويته!! 

صحيح أن من شروط بقاء المجتمعات ونموها تنوع الآراء والأفكار لدى نخبها الذين تربطهم في النهاية أهداف مشتركة ويحرصون على تحقيق مصالح عامة.  لكن وكما يقول الدكتور محمد عابد الجابري "غالبا ما نجد إصرارا من قبل النخب المتغربة لجعل الهوية ترتدي لبوس السياسة عنوة وتصبح معول تفرقة، بدل أن تبقى عاملا للوحدة والاتحاد، على اعتبار أن الهوية تمثل المشترك بين فئات المجتمع، وتُساهمُ في جعلهم يُحقّقون صفة التفرّد والتمايز عن غيرهم."

وتحضرني في هذا السياق حادثة لا تخلو من الطرافة، تقول إن كارل ماركس اكتشف أن السبب الذي دفع والده إلى تغيير ديانته اليهودية واعتناق البروتستانتية قبل ميلاده بعام لم يكن عقديا، بل كان اقتصادياً، ليحافظ والده على مصالحه، بعد أن انتقل إلى مقاطعة ذات أغلبية لوثرية، هنا توقف ماركس برهة، ليفهم أن كل شيء يمر من هنا "وأشار لجيبه ".

لكن دعونا نعود إلى أسئلة الدكتور خالد. 

تدور مداخلة الدكتور خالد ولد محمد ولد أسيساح حول تساؤل محوري أساسي: ما هو الهدف من دمج لحراطين في هوية البيظان؟ 

ولنقاش هذا السؤال الرئيسي تتعين الإجابة على ثلاثة أسئلة فرعية، هي: لماذا هذا السؤال؟ ومَن في مصلحته دمج لحراطين في هوية البيظان؟ ومن هو المستفيد من فصل لحراطين عن هوية البيظان؟

وفي البحث عن إجابة السؤال الفرعي الأول، يتهيأ لي أن ثلاثة عوامل دفعت لإثارة هذا السؤال المريب.

العامل الأول: هو دافع التضرر من جوِّ التهدئة السياسي والتقارب النفسي الذي عمل الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني على ترسيخه بعد ما شهده العقد الماضي من الشحن الشرائحي والخلاف السياسي. ولا شك أن المتربصين بالوحدة الوطنية واللحمة الاجتماعية هم المستفيد الأول من سياسة نشر خطاب الكراهية وبث الفرقة بين مكونات المجتمع، ولن تظل مكتوفةً أيديهم أمام جهود هذا النظام في إشاعة التهدئة السياسية والمصالحة الاجتماعية.

العامل الثاني: نرى أن تداعيات الموقف الرسمي والشعبي من حرب الإبادة على غزة والشعب الفلسطيني كان أحد أهم الدوافع. فمن المعلوم أن موقف الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الصريح والواضح المساند للشعب الفلسطيني والمناهض للحرب على غزة، وهو رئيس عربي ورئيس للاتحاد الإفريقي، ويقود دبلوماسية نشطة، من المؤكد أن هذا الموقف المخالف لإرادة العدو وحلفائه وعملائه لن يمر دون عقاب، وأن العدو الإسرائيلي سيحفز عقاربه لتنفث سمومها في أماكن الجسم الحساسة، خصوصاً حيث تلتقي رغبة العدو في إيلام الحسم مع غاية العقارب في تمزيقه وتحلله.

العامل الثالث: هو دافع إغراء ظروف الرخاء المحتملة مع عائدات ثروة الغاز. يقول البيظان:" ألِّ يَعرَفْ يُوكْلَكْ إلَ شَافَكْ يَنسْلَعْ " ومن غير المستغرب أن يُشكل هذا الإغراء عامل هجرة لا شرعية غير مسبوقة، لكن المستغرب بل المربك أن يرى فيه بعض المواطنين مثل ما يراه مرضى النفوس والمتربصين بالبلد شراً فرصة وسانحة لا تعوض لخدمة غايات وأهداف دفينة لزعزعة أمن واستقرار البلاد.!!

أما السؤال الفرعي الثاني وهو: مَن في مصلحته دمج لحراطين في هوية البيظان؟

تنبع أهمية وحدة المجتمع من أنّها سبيل لتوحيد صفوفه، ولمّ شمله، وجعله كيانًا وجسدًا واحدًا، على اختلاف أعراقه وأنسابه وألوانه، والوحدة مطلب وهدف تسعى إليه المجتمعات البشرية كلّها، فتقرُّ السياسات وترصد الميزانيات من أجل تحقيقه، لأن وحدة كل مجتمع مؤدية إلى قوته ومنعته وعزته، فهي صمام أمنه ووسيلة تنميته. 

ولهذا فإن دمج لحراطين في هوية مجتمع البيظان تخدم مصلحتهما معاً ومصلحة شركائهم الإيجابيين للأسباب التالية:

السبب الأول: هوالعلم بأنّ الخلاف والفرقة ما هي إلا سبب للذل والفشل. ثم إن هذا الاندماج واقع بالفعل بكل دلالات الكلمة لغةً واصطلاحاً: (أدمج الشَّيءَ في الشَّيءِ: دمَجه فيه، أحكم إدخالَهما أو خلطَهما أو ضمَّهما معًا، وحَّدهما) وهذا هو واقع لحراطين والبظان رغم مكائد الكائدين.

السبب الثاني: هو أن العقلاء في الطرفين لا يقبلون مبدأ هذا التفكير، ويرفضون مساعي مَن يقف خلفه، لأنه يضر بما يجمعهم، وما يجمعهم هو كل شيء تقريبا، حتى آثار مظلومية الاسترقاق ومظاهر التفاوت الطبقي أصبحتا عاملي وحدة، فمشاعر أبناء الأسياد السابقين تجاه أبناء الأرقاء السابقين تحولت في العقود الأخيرة إلى مدخلٍ رئيسي لمعالجاتٍ مهمة كالقناعة والرضا بحلول التمييز الإيجابي، والثبات في مواقف صبر وتحمل الإساءات والبذاءات، وتفهم ردات الفعل والتي تكون عنيفة وجارحة أحياناً.

فتبادل مثل هذه المشاعر والمواقف الأخوية يعزز الوحدة ويقوي الروابط. و(ألِّ أدخَلْ بَيْنْ لَخُّوتْ يَظَّايْكُٰ اعْلِيهْ.)

السبب الثالث: حصول الوعي لدى النخبة الوطنية المعتدلة من الطرفين بأن الحل المشترك يتجسد في إقامة دولة المواطنة التي تفرض محو التراتبية الاجتماعية وتردم الهوَّة الطبقية وتضمن تكافؤ الفرص والتكامل والاندماج طبقاً لمبدأ الحرية والعدل والديمقراطية التي هي أسس ودعائم دولة المواطنة.

السبب الرابع: هو عدم وجود أسباب ودوافع موضوعية للانفكاك، وبالتالي رفضه من طرف السواد الأعظم من كلتا المكونتين نظرا لتعارضه مع خدمة المصالح العليا للدولة والمجتمع.

ولهذه الأسباب باتت مهمة خدَّام الفتنة والتشرذم جدُّ صعبة بل مستحيلة.

ولنقاش السؤال الفرعي الثالث والذي هو: في مصلحة من، فصل لحراطين عن هوية البيظان؟ نحتاج إلى قراءة في بعض الأحداث التاريخية، وخصوصاً منذو سيطرة المستعمر الفرنسي على هذه البلاد، فقد هبت لمقاومته كل مكونات الشعب الموريتاني، عرباً وزنوجًا، ولما انكسرت شوكة المقاومة العسكرية، لعدم تكافؤ القوة النارية، انخرط المجتمع في مقاومة ثقافية عنيدة تمثلت في رفض الاعتراف بشرعية حكم دولة المستعمر قانونا وثقافة، فلا يخضعون لحكم قضائها ولا يُقبلون على التعليم في مدارسها، فكان حكمه عبارة عن إدارة حامية عسكرية.

وفي المقابل رفض المستعمر بناء دولة موريتانية، فلم يشيد بنى تحتية، ولم يؤسس مقومات ثقافية ولا مدنية قابلة لأن تكون نواة لمشروع دولة في المستقبل، وعلى الصعيد السياسي وزع البلد إلى أقاليم تتبع في إدارتها وتسييرها لإدارات تتخذ من السنغال ومالي طواقم ومقرات لها، وعلى الصعيد الاجتماعي لم تحرر إدارة المستعمر العبيد ولم تقض على النظام القبلي، بل رسخت العبودية فمكنت لطاعة الأسياد، وعززت سلطان القبيلة، فجعلت من شيوخ القبائل أعواناً تابعين نافذ أمرهم تحت طاعة المستعمر.

ولما تبلورت فكرة تأسيس الدولة الوطنية لم يكن لدى أصحاب مشروعها الطاقم والوطني الكافي، فاضطر المرحوم المختار ولد داداه الرئيس المؤسس إلى جلب طاقم يسدُّ حاجة مشروع الدولة من الموظفين والعمال فلجأ إلى طواقم إدارة المستعمر الأجانب الذين ينحدرون من دول غرب إفريقيا جنوب الصحرا، أساساً من السنغال ومالي والدول المجاورة لهما. وكان الاتفاق يقضي بتخيير هؤلاء العمال بين التعاقد والتجنيس، وبَدَهي أن نتيجة هذا التخيير ستؤدي إلى المآل نفسه وهو الاستيطان. وهذا ما حدث بالفعل، لكن في غياب العمق الديمغرافي الوطني الذي يجسد هوية وثقافة موريتانيا الحقيقية. فتأسست الرابطة بين الدولة والطاقم الأجنبي المتموقع في كل مفاصل حكومة البلد وإداراته، على أساس علاقة العامل "بِبُوسْطَةِ" عمله، حاضر في اتخاذ القرارات وإجراءات التنفيذ أوقات الدوام وغير معني خارج هذا الوقت إلا بما يضمن له الاستمرار في السيطرة الإدارية والثقافية على قلب الدولة المختطف. ومن الطبيعي أن يكون في أولويات هذا الطاقم المسيطر رسم وتنفيذ الخطط والسياسات التي تضمن إقصاء وإبعاد أهل الأرض أصحاب المشروع الطبيعيين باعتبارهم منافسين تتعارض مصالحهم الاستراتيجية العامة مع أهداف الفريق الوافد في استمرار الهيمنة وحلب وظائف الدولة على طريقة طيور الوقواق، تتسلل إلى أعشاش الطيور الأخرى وتفرخ فيها حتى إذا فقست بيوض الوقواق عملت أفراخها على رمي بيوض وأفراخ الطائر المضيف خارج عشه للتفرد بأبوة ورعاية صاحب العش المسكين  بعد أن حيدت بيوضه وأفراخه وأوهمته بأبوة زائفة. وهذا بالضبط ما خطط له فريق الوقاويق الذي استوطن البلاد منذو الاستقلال، فظل يتربص لكل صغيرة وكبيرة ليعبث بالسلم الأهلي ويُعبر عن رفضه للشراكة الإيجابية مكشرا عن أنياب الحقد والكراهية، كلما مارست الدولة حق السيادة في ما لا يمَكِّن لثقافة ولغة المستعمر ويعزز هيمنته على الإرادة الوطنية...! 

أوَ ليست اللغة العربية لغة دين إفلان و"اتكارير"، ودين سرقله، وولف...! وبها تعلم وتكلم ودَوَّن وألَّف وراسل أجدادهم، أوَ ليست لغة شركائهم وإخوتهم في الدين والوطن! أوَ لم يكونوا جيرانا وإخوة يتعايشون سلميا، ويتعاونون اجتماعيا. ويتكاملون اقتصاديا، ويتبادلون ثقافيا، قبل مجيء المستعمر..!؟

نعم لقد كنا كذلك، وقد وقفنا في وجهه معاً، وقاومناه عسكريا وثقافيا معاً، وإن كنا نسينا أو نسي بعضنا، فإن المستعمر لم ولن ينسى مواقفنا تلك ضده معاً أبداً.

نعم لقد أخذت موريتانيا استقلالها وحددت هويتها، وامتلكت إرادتها واكتسبت حق اتخاذ قراراتها، وممارسة سيادتها على عموم ترابها. 

لكن فرنسا وعملاءها وأعوانها محلياً وإقليمياً، ستظل عبر فِرَق الوقاويق المأجورة تصارع من أجل الفتنة وطمس الهوية وإقصاء الثقافة المحلية.

فلقد شهدت سنوات: 1966، و1986، و1987، و1989، 2025.  أحداثاً شاهدة على المكائد الخبيثة من أجل مخطط استعماري يستهدف وحدة وأمن واستقرار بلادنا ويأبى الله ذلك.

 إن مسألة الرق وهوية لحراطين لم تشكل يوما مدخلا لمكائد فريق الوقاويق وأسياده طيلة نصف قرن من المحاولات، لأسباب منها: 

- أن المستعمر نفسه هو أسوأ استعبادي شهده التاريخ و جزيرة "كُٰوريه"قرب دكار دليل قائم حي. وهو أيضا شريك في جريمة العبودية محلياً لأسباب تم ذكرها.

- السبب الثاني : أن العبودية أنتنُ وأحدر درجة في مجتمعات إفريقيا السوداء.

 إلا أن توالي مشاهد الوحدة والاندماج الكلي والعفوي، حين حصول الإجماع على الزعيم مسعود ولد بلخير، والقبول والارتياح اللذين قوبلت بهما رئاسة الرئيس المرحوم با امباري، وترشيح الرجل الشهم بيجل ولد هميد على رأس حزب الوئام الوطني الذي أسسه إئتلاف من الزعامات التقليدية وشيوخ القبائل من مختلف جهات البلد وجميع مكوناته، حتى أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلم دولة المواطنة، حينها بدأ فريق الوقاويق الاعداد لهذه الحملة العدائية من أجل تشريح مجتمع البيظان وتوزيعه إلى فُسيفِساء متنافرة.

ولم تكن البداية بمجتمع لحراطين، لأن قيادات لحراطين أنذاك أكثر نضجاً وأنفذ بصيرة، ولم يكن اختراق هذا المكون عن طريقهم أمرا ممكنا رغم المحاولات الفاشلة، كما فشلت خطابات البربرية والأمازغية، ولمعلمين ولعرب ، وازواية كلها محاولات تشريحية لم تصمد لِوَهن مرتكزات خطابها.

لكن شركاء المؤامرة (الصهيونية والماسونية والوقاويق) لجأوا لخطة جهنمية تقوم على حرطنة عناصر من حركة افلام(واجهة الشركاء)ودمجهم في لحراطين وتسليحهم بخطاب استفزازي شرائحي، يخدم ثلاثة أهداف رئيسية:

الهدف الأول: هو هدم المقوم المعنوي للبيظان. 

الهدف الثاني: جعل مكونات المجتمع تصطف على أساس لوني.

الهدف الثالث: هو التنظير لعدم وحدة المشترك الثقافي والهوياتي لمجنمع البيظان..

وكان تحقيق أي من الهدفين الأولين كفيل بالإيفاء بالغرض، لكن الهدف الأول فشل بفعل قوة امتصاص مجتمع البيظان للصدمة، والتحلي بالصبر الجميل على البذاءة والإساءة..

وفشل الثاني: نظرا لعدم وجاهته، فاللون سمة مشتركة بين المكونتين، لا يمكن عن طريقه تمييز مكونة من أخرى.

أما الهدف الثالث فسنتحدث عن مصيره في الحلقة الثالثة ضمن نقاش السؤال الرئيسي الثاني من الأسئلة التي أثارها الدكتور.

                                                       *الحلقة الثالثة*

سنبدأ هذه الحلقة بنقاش التساؤل الرئيسي الثاني من أسئلة الدكتور خالد حول أصول وهوية لحراطين. ولنقاش هذا التساؤل يجب أن نعرف الإجابة على السؤالين التاليين: من هم لحراطين؟ وما علاقتهم بالعبيد السابقسن؟

وللإجابة عن السؤال من هم لحراطين؟ فسنعتمد على التعريف الاجتماعي المتعارف عليه في الثقافة المحلية وما هو معلوم بالأدلة الثابتة في واقع المجتمع دون الخوض في سرديات أخرى لم نقف على ما يثبت لها أصلا أو مستنداً.

فكونهم من أصول القوميات الأفريقية المجاورة، استرقهم البيظان، فهذا يرفضه السونكي وإفلان، وهم لا يتشابهون في ملامحهم مع بنبارة الماليين، وكل مميزاتهم الثقافية لاتمت بصلة لهذه المجتمعات. وهكذا أغلب السرديات الأخرى تتحطم على جدار الأدلة الثقافية والتاريخية الموثوقة. 

أما لحراطين في التصنيف الاجتماعي وفي الثقافة المحلية هم طبقة من طبقات مجتمع البيظان تنحدر في أصولها من أعراق مختلفة أغلبها عربية كما تثبت الأدلة الثقافية والتاريخية. 

وتماما كباقي مكونات مجتمع البيظان، فقد ملكوا العبيد وسادوا، وتدرجوا في مختلف الرتب الاجتماعية، (تَظْحَكْ ما بُوكْ هَمَّدي). 

ولحراطين هم إحدى طبقتين مصنفتين على أساس غير مهني هما: (الشرفه ولحراطين) بينما باقي طبقات المجتمع هي طبقات مصنفة على أساس مهني كالعبيد والزوايه ولعرب ولمعلمين وإيكاون وآزناكه وكلها تشترك في هوية مجتمع البيظان (الهوية العربية الإفريقية).

أما السؤال عن علاقة لحراطين بالعبيد السابقين، فهي تجلي من تجليات نظام التحول والاندماج الداخلي لطبقات المجتمع، فمثلاً طبقة لمعلمين عند الاستقالة من دورها الصناعي تأخذ مهنة الزوايه وكذلك لعرب، ويندمج العبيد العتقاء في طبقة لحراطين، لعوامل منها اللون وخروج العبيد من دائرة التصنيف المهني السابق يجعلهم يشتركون مع لحراطين في هذه الخاصية، دون مقاسمتهم آثار مظلومية الاستعباد، لأن لحراطين من جملة الأسياد السابقين.

ورغم احترام المبدأ القائل بأن الناس مصدقون في أنسابهم، فإن من خصوصيات مجتمع البيظان، هذا نظام التحول والاندماج المرن المفتوح أمام هيبة العلم والمعرفة والسُّموِ بفضائل القيم ومكارم الأخلاق لمن أراد أن يغنيه محمودها عن النسب. 

 هذه باختصار هي هوية البيظان بكل طبقاتهم بمن فيهم لحراطين. 

ويتساءل الدكتور! هل للحراطين هوية ثقافية مختلفة عن ثقافة البيظان؟

 تقول القاعدة: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره" ولذا سنُعرِّف الثقافة كمفهوم عام، ثم نتعرف على ثقافة البيظان، كي نصل إلى ما هو مختلف عند لحراطين عن ثقافة البيظان.

فإذا كانت الثقافة اصطلاحا هي نظام يتكون من مجموعة من المعتقدات والاجراءات والمعارف والسلوكيات. وهي مجموع ما ينتجه المجتمع وما يحيط به من مظاهر الحياة واللغة والفن والأدب. فإن البيظان وهم سكان المنطقة المعروفة جغرافيا وتاريخيا  بأرض البيظان، من وادي درعه شمالا إلى وادَيْ نهر السنغال ونهر النيجر جنوبا، ومن المحيط غربا إلى جبال إفوغاس شرقا، يتقاسمون نفس الملامح والعادات والتقاليد، ويتكلمون لغة بني حسان، ويدينون جميعا لدين وثقافة الاسلام، ويشتركون في الزي ونمط المعيشة والسكن... فلا شيء عند لحراطين يختلف عن ثقافة البيظان، لا في الملبس: نفس الدراعة والسروال والحول والملحفة. ولا في شكل المساكن ونظام السكن : نفس الخيمة والبنية والبيت ولمبار، سواء في القرية أو في الحلة  أو أسكره أو أدباي أو لعزيب أو الكرص. ولا في تقاليد الزواج ولا مراحل النُّمو: نفس العقيقة(لسم) ونفس الختان ونفس اتفكريش واتسوليف، ونفس الخطبة وصداق والترواح  ولحفول والتسدار. ولا في أنوع الطرب والهول يتذوقون جميعا نفس الموسيقى والأداء بنفس الأدوات ونفس الألحان، ويتميز إيكاون ولحراطين بدور الحفاظ على الأصول الثقافية والفنية في هذا المجال.

ولا يختلفون -أيضاً- في طريقة الأكل وأنواع الوجبات، يأكلون جميعا كسكس والعيش والشرشم والمشوي... بنفس الأدوات ونفس التحضير.

ويشربون الشاي بالنعناع ويعشقون الرمال الناعمة البيضاء.

وخلاصة القول أن كل هذه الأحداث والارهاصات هي مظاهرُ تعبيرٍ عن الحاجة الماسة إلى ترسيخ وتطوير ثقافة، وسياسة، وممارسة، تقوم على تعزيز وتنمية المشترك، وعلى قيم المواطنة بأبعادها القانونية والاقتصادية والاجتماعية، وبناء جسور صلبة من الثقة بين المجتمع والسلطة، تقوم على خدمة القضايا المختلفة عبر الحوار والتسامح ونبذ العنف والتطرف والارهاب، ورفض ومحاربة الفساد، واعتماد الحلول الديموقراطية وصولا إلى التداول السلمي على السلطة، في ظل دولة المواطنة والقانون، حيث نسيم الحرية في ظل العدالة ورغد العيش.

محمد الهادي ولد الزين ولد الإمام

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122