لحراطين بين الهويتين ولعنة الفقر والتاريخ.../ قاسم صالح

2025-04-25 17:45:52

سؤال الهوية والذاكرة المنسية

في عمق الصحراء الموريتانية، حيث تتشابك الرمال مع الذاكرة، يتموضع سؤال الحراطين لا بوصفه مسألة فئوية أو جزئية، بل كاختبار أخلاقي وفكري لبنية الدولة الوطنية الحديثة. إنهم أبناء جرح مزدوج: هوية منفية وتاريخ مثقل بالفقر والنبذ. وعلى مدى عقود، ظل الحراطين يتأرجحون بين انتماءين: انتماء للوطن الذي لم يمنحهم اعترافا كاملا، وانتماء لهوية اجتماعية فرضها واقع العبودية القديمة وتجلياتها الحديثة.

 

وقد لخص الزعيم جمال عبد الناصر جوهر هذه الإشكالية حين قال: (إن الحرية السياسية لا تكون شيئا إذا لم تقم على أساس من الحرية الاجتماعية، والحرية الاجتماعية لا تكون شيئا إذا لم تستند إلى العدالة الاجتماعية).

 

فأين موقع لحراطين من هذه المعادلة؟ وهل يكفي الاعتراف الشكلي لإنهاء قرون من الإقصاء؟

 

1: التاريخ المطموس - سردية من الظل

الحراطين لم يكونوا يوما غائبين عن تاريخ موريتانيا، بل كانوا مغيبين. لم يكتبوا تاريخهم لأن من امتلك القلم كان ينظر إليهم كهوامش اجتماعية. والأنكى أن سردية الدولة الوطنية – منذ الاستقلال – تبنت منطق الاندماج القسري، حيث يطلب من الحراطين نسيان ماضيهم دون أن تمنح لهم حقوقهم.

 

والأخطر أن بعض النخب تعاملت مع ملف الحراطين باعتباره مأزقا أخلاقيا أكثر منه سؤالا بنيويا يتطلب تفكيك المنظومة الاجتماعية والسياسية القائمة. وهنا يستعاد قول عبد الناصر مرة أخرى:

(إن العدالة ليست إحسانا يمنح، وإنما حق ينتزع).

لكن من أين تنتزع هذه العدالة إذا كانت البنية ذاتها تقوم على إنكار وجود الظلم؟

 

2: بين الهويتين – انتماء مشروط واعتراف ناقص

يحيا الحراطين في مفارقة وجودية عميقة: يطلب منهم الدفاع عن وطن لا يعترف بكامل إنسانيتهم، ويذكرون دوما بأنهم منا ولكن بـ(لكن). هم في الخطاب الرسمي إخوة في المواطنة، لكن في الممارسة المجتمعية تعاد صياغة الفوارق الطبقية تحت عناوين قبلية أو فئوية أو حتى دينية.

 

هذا الازدواج الهوياتي يضعهم في وضعية المواطن من الدرجة الثانية، وهو ما يفرض سؤالا صريحا:

هل يمكن للوطن أن يكون وطنا حقا، إذا لم يعد بناء ذاته على قاعدة من المساواة الحقيقية والاعتراف بالذاكرة الجريحة لكل مكوناته؟

 

3: الفقر – لعنة اجتماعية أم سياسة ممنهجة؟

الفقر في حالة الحراطين ليس مجرد نتيجة اقتصادية، بل هو بنية متوارثة تواطأت على إنتاجها السلطة التقليدية القبلية والتحالفات السياسية التي استباحت العدالة تحت عنوان الاستقرار. لقد أصبح الفقر قيدا طبقيا يعاد إنتاجه عبر التعليم غير المتكافئ، والولوج المحدود إلى فرص العمل، والتهميش الرمزي في الإعلام والثقافة والسياسة.

 

إن الفقر هنا ليس مجرد مصير، بل قرار. وقد قال عبد الناصر:

(إن الذين لا يملكون قوت يومهم لا يملكون حرية قرارهم)

وكم من الحراطين اليوم يطلب منهم الصمت لأنهم جياع؟ وكم منهم يستخدمون في الحملات الانتخابية ثم ينسون في دهاليز البرلمان؟

 

4: الدولة وإصلاح الواجهة

منذ عقود، تتغنى الأنظمة المتعاقبة بشعارات دمج الحراطين والإنصاف والوحدة الوطنية. لكنها شعارات بقيت حبيسة الخطاب الرسمي، لا تترجم إلى تغيير جذري في التراتب الاجتماعي أو في توزيع الثروة والسلطة.

 

المطلوب ليس فقط تعيين وزراء من الحراطين، بل تفكيك الأسس الطبقية التي تجعل من تمثيلهم واجهة لا سلطة. ليس المطلوب إعطاء مقعد في البرلمان، بل كسر المنظومة التي تجعل هذا المقعد بلا تأثير.

 

5: التحرر كأفق – نحو وطن لا يهمش أحدا

إن المشروع الوطني الحقيقي لا يمكن أن يبنى على إنكار فئة أو تهميشها، بل على الاعتراف بها كشريك متكافئ في صناعة الحاضر والمستقبل. الحراطين ليسوا ضحايا فقط، بل فاعلون في مشروع التحرر، إذا ما توفرت إرادة سياسية وشعبية لإنصافهم.

 

وهنا يستعاد صدى عبد الناصر في أعظم صوره عندما قال:

(إن الحرية لا تمنح... بل تنتزع انتزاعا).

وإن نضال الحراطين، الذي بدأ منذ زمن بعيد، هو اليوم في لحظة مفصلية: بين من يريد تسكين الجرح، ومن يريد اقتلاع المرض من جذوره.

 

ليس سؤال الحراطين شأنا فئويا، بل سؤال الوطن نفسه. وطن لا يمكنه أن يكون حرا وهو يضم بين جنباته من يعيشون كأنهم غرباء. لا بد من مواجهة لعنة التاريخ، لا عبر إنكارها، بل بكتابتها من جديد، بمداد من العدالة.

لقد آن الأوان لموريتانيا أن تخلع عباءة التعايش المزيف وترتدي ثوب الحرية الصادق، ذلك الذي لا يفصل حسب مقاسات القبائل والنخب، بل حسب مقاس الإنسانية.

قاسم صالح

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122