بين فخ المفاوضات وهاجس الحرب: قراءة في مفاجأة ترامب لنتنياهو بشأن إيران

2025-04-14 22:42:05

ميشيل شحادة

في عالمٍ تحكمه المصالح، وتتشكل خرائطه بالدم والنفط والمعادلات الصاروخية، قد يبدو حدثٌ سياسيٌّ عابراً، لكنه يحمل في طيّاته ما يزلزل التحالفات ويعيد رسم الاصطفافات. ومن هذا النوع كان قرار دونالد ترامب بفتح باب المفاوضات مع إيران، في خطوة جاءت على عكس رغبة بنيامين نتنياهو الجامحة في توجيه ضربة عسكرية شاملة لطهران، تشترك فيها الولايات المتحدة أو تتولاها “إسرائيل” بدعمٍ أمريكيٍّ مطلق.

أعلن ترامب هذا القرار بشكل مفاجئ أمام الكاميرات، ونتنياهو بجانبه، الذي عامله ترامب بقدرٍ قليل من الاحترام حين استدعاه إلى البيت الأبيض، خلافاً لما اعتاد عليه سابقاً من تحضير مسبق ومن استقبال مفروش بالسجاد الأحمر. لم يكن هذا التحوّل في الموقف الأمريكي تجاه إيران خطوة تكتيكية عابرة، بل يُرجّح أنه جاء نتيجة قراءة معمّقة للواقع الاستراتيجي في المنطقة، ولقدرات إيران وصمود “محور المقاومة” الذي ظل حاضرا بقوة في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة.

السؤال الجوهري هنا: هل دخول واشنطن في مفاوضات مع طهران يعني أن الخيار العسكري قد أُلغي؟ الجواب معقّد. فالمفاوضات، في منطق السياسة الإمبريالية، ليست بديلاً عن الحرب بل أداة تمهيدية لها إن فشلت. هي وسيلة لاختبار مرونة الخصم، أو ابتزازه، فإن لم يرضخ، تُطرح الحرب كخيار لإجباره على الاستسلام — خاصة إذا كان ضعيفًا، وتُوفّر المفاوضات حينها كلفة الذخيرة والطاقة. وإن تعنّت، تصبح الحرب أداة للإخضاع بالقوة.

لكنّ إيران ليست دولة ضعيفة، ولم تركع على مرّ السنين، رغم الحصار الاقتصادي الجائر، والحصار السياسي والدبلوماسي. لقد قرأت واشنطن واقع المنطقة جيدًا، وأدركت أن شنّ حرب على إيران لن يكون نزهة، وأن “الضربة الأولى” لن تضمن لها النصر، بل قد تفتح أبواب الجحيم على قواعدها في الخليج، وعلى حليفتها المدلّلة إسرائيل، التي ستواجه ما لم تواجهه من قبل، ليس فقط من إيران، بل من كامل محور المقاومة، الذي وإن كان قد ضعف، فإنه لم ينتهِ، ولا يزال يملك الكثير من وسائل القوة.

ad

تريد واشنطن من إيران قائمة طويلة من التنازلات، تبدأ بتفكيك برنامجها النووي، ليس العسكري فقط، بل حتى السلمي، في محاولة لسلبها أي مقوّم لمكانة استراتيجية مستقلة. ثم تطلب منها أن تتخلى عن دعمها للمقاومة في فلسطين، ولبنان، واليمن، والعراق، كل ذلك لصالح تأمين التفوّق الإسرائيلي وتكريس الهيمنة الغربية على الإقليم.

ويتبع ذلك رغبة أمريكية في تجميد أو تقييد برنامج إيران الصاروخي، وابتعادها الكامل عن سوريا، وتجميد علاقتها الاستراتيجية مع كل من روسيا والصين، ثم انخراطها في “محور التطبيع” الإقليمي مع الكيان الصهيوني والانضواء تحت المظلة الغربية. باختصار، تريد الولايات المتحدة “إيران جديدة” مطواعة، منزوية، لا تشبه إيران الثورة، بل أشبه بمصر مبارك أو أردن وادي عربة.

في المقابل، تَعِد واشنطن برفع العقوبات ومساعدات اقتصادية… وعودٌ لطالما بُنيت على سراب، كما حدث مع مصر والأردن اللتين بقيتا رهينتين للفقر رغم سنوات التطبيع والتبعية.

لم تشنّ أمريكا الحرب لأن كلفتها باهظة ومخاطرها جسيمة. فاليمن وحده أسقط أسطورة القوة الغربية على باب المندب والبحر الأحمر. فالقصف العنيف والمدمّر الذي استهدف اليمن شكّل ذروة ما لدى واشنطن، ومع ذلك، لم يفلح في كسر عنفوان اليمنيين، ولا في النيل من عزيمتهم وصلابتهم وصمودهم.

فأنصار الله لا يزالون يضربون السفن المتجهة إلى “إسرائيل”، ويستهدفون السفن الحربية الأمريكية، بل وصلوا إلى قصف وسط تل أبيب بدقة وحرفية. وهم، رغم الحصار والتدمير، لا يزالون قادرين على قطع شرايين التجارة العالمية إذا اضطروا.

أما مضيق هرمز، رئة العالم النفطية، فيمكن أن يتحوّل إلى خنجر في الخاصرة الغربية إذا قررت إيران إغلاقه، تحت غطاء ردع صاروخي مدمّر، بصواريخ دقيقة مدفونة في الجبال، يصعب تدميرها وتعرف أمريكا خطورتها جيداً.

والأسوأ: أن تؤدي الضربة إلى رفع الفتوى بتحريم السلاح النووي، فتبدأ إيران بتصنيعه علناً كوسيلة ردع نهائية. عندها تكون الحرب قد أفرزت ما كانت تحاول منعه — وهو ما لا تملك واشنطن تحمّل تبعاته.

لو كانت إيران مهزومة، كما يروّج الخطاب الدعائي الإسرائيلي بعد أحداث السابع من أكتوبر في فلسطين ولبنان وسقوط نظام الأسد، لكان من البديهي — وفق منطق القوة الذي تدير به الولايات المتحدة علاقاتها الدولية — أن تبدأ بالحرب أولاً. هكذا يفعل الإمبراطور حين يرى خصمه ضعيفاً: يسحقه، ثم يفاوضه على شروط الاستسلام. هذا ما فعلته واشنطن في العراق وأفغانستان وصربيا، وغيرها. لكن الملف الإيراني خرج عن هذه القاعدة.

لم تبدأ الولايات المتحدة بالحرب، بل اختارت التفاوض. وهذا وحده يكشف الكثير: إذ يبدو أن كل ما لديها من معلومات استخبارية وتقديرات عسكرية قد قادها إلى قناعة واضحة — أن الحرب على إيران، مهما كانت مباغتة وشاملة، لن تضمن نصراً حاسماً، بل ستُقابل بمقاومة عنيدة وردودٍ انتقامية قد تمتدّ إلى قلب أوروبا.

إيران، ببساطة، ليست دولة هشّة تتهاوى تحت الضربات الأولى. إنها قوة إقليمية كبرى، بعمق جغرافي وتاريخي واستراتيجي، ومنظومة دفاع متقدمة، وتحالفات فعّالة تمتد من لبنان إلى اليمن، ومن العراق إلى سوريا، إلى جانب شراكات استراتيجية مع الصين وروسيا. تملك ما يكفي من الصواريخ الدقيقة، والبنية التحتية المعقّدة، والجغرافيا الواسعة، ما يجعل فكرة تدميرها بالكامل مجرّد وهم.

في المقابل، لا تسعى إيران إلى الحرب، بل تحاول جاهدة تجنّب الدمار، ولا ترغب في جرّ شعبها إلى جحيم المعاناة. لكنها، إن فُرضت عليها الحرب، فهي جاهزة لها. هذا الاستعداد نابع من مبدأ استراتيجي راسخ: الدفاع عن السيادة لا يقبل المساومة. ولهذا، تدخل إيران أي مفاوضات متمسّكة بكرامتها واستقلالها، لا تسعى إلى بيع أوراقها مقابل وعود أمريكية مكرّرة، ثبت كذبها بالتجربة.

إيران قد تُفاوض على البرنامج النووي ذي البُعد العسكري، في إطار تفاهمات تقنية ودبلوماسية تحمي مصالحها وتُجنّب المنطقة الانفجار، لكنها تحتفظ لنفسها بحقّ تطوير برنامجها النووي السلمي، شأنها شأن أي دولة مستقلة في العالم. أما فيما يخص وجودها الإقليمي، فهو خط أحمر، لأن إيران لا ترى هذا الوجود كامتداد “توسعي”، بل كجزء من تفاعلها الطبيعي في جغرافيا مقاومة تربطها علاقات أخوية وسياسية مع شعوب تقاوم الاحتلال والهيمنة.

والأمر ذاته ينطبق على برنامجها الصاروخي، الذي لم يُنشأ لأغراض هجومية، بل كضرورة استراتيجية في بيئة معادية ومهدّدة. ففي ظل غياب مظلة جوية متقدّمة، وحصار تسليحي خانق، كان من الطبيعي أن تستثمر إيران في ترسانة صاروخية رادعة. ولذلك، فإن أي نقاش حول هذا البرنامج يُعدّ مساساً بحقّ سيادي غير قابل للمساومة. ومن الممكن أن تقدّم إيران وعوداً شفهية بعدم توسيع مدى صواريخها، كما فعلت في الاتفاق الأول، بهدف تهدئة المخاوف الأوروبية.

باختصار، ذهبت واشنطن إلى طهران، لا لأن إيران ضعيفة، بل لأنها قوية بما يكفي لجعل الحرب خياراً كارثياً. لأنها أثبتت عبر سنوات الصمود أن من أراد الحوار، فعليه أن يأتيها على قاعدة الاحترام، لا الإملاء.

حاول نتنياهو إقناع إدارة ترامب بأن “محور المقاومة” قد تم تحييده، وأن إيران في أوج ضعفها، ففوجئ بقرار واشنطن الدخول في مفاوضات، بعد أن أدركت عدم صحة ادعاءاته. فكيف يمكن لإيران، التي تقف خلف صمود اليمن، وتملك قدرات تفوقه بأضعاف، أن تكون ضعيفة كما يزعم؟

وكيف لأمريكا أن تُجازف بحرب لا يمكن السيطرة على تداعياتها؟ خاصة في وقت تؤكد فيه التقارير أن آلة الحرب الأمريكية تستهلك ذخائرها بوتيرة متسارعة في اليمن، كانت مُعدّة أصلاً لمواجهة محتملة مع الصين.

أما إذا كانت الولايات المتحدة تسعى إلى استخدام المفاوضات كفخّ — أي أنها جرّبت التفاوض وفشل بسبب تعنّت إيران — ولم يعد أمامها سوى خيار الحرب، فإن ذلك يفتح الباب على سيناريو بالغ الخطورة. ومع ذلك، أستبعد هذا الاحتمال، وأرجّح أن الطرفين قد خاضا بالفعل الجولة الأولى من التفاوض التي أتاحت الجلوس إلى الطاولة. لكننا في زمن ترامب، زمن التقلبات والارتجال واللامنطق، حيث كل شيء ممكن. ورغم بقاء احتمال التصعيد العسكري قائماً، يبقى خيار الاتفاق هو الأرجح.

في هذا المفصل التاريخي، لم تعد الحروب تُدار بالسفن والطائرات وحدها، بل بحسابات العمق الاستراتيجي، وميزان الردع، وقدرة الشعوب على الصمود. إيران، التي حوصرت وقوطعت وشيطنت إعلامياً، لم تنحنِ، بل أرغمت أقوى دولة على الأرض على الجلوس معها إلى الطاولة. وها هي، في لحظة نادرة، تُملِي شروطها على من سعى إلى إخضاعها.

والحال نفسه مع المقاومة اللبنانية والفلسطينية، التي تلقت ضربات قاسية ومؤلمة، وخسرت الكثير من قادتها وأهلها، وتعرّضت بيئتها الحاضنة للتدمير، لكنها لا تزال تملك القوة، بل تتفوّق في ميزان القوى الاجمالي بفضل العامل الإنساني، إن كان في نوعية المقاتل المقاوم، الذي أثبت صلابته وأسطوريته في الميدان، أو في صلابة وصمود وإيمان وعقيدة بيئة المقاومة.

كاتب فلسطيني

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122