ذات مساء شتوي من فبراير 1989 كنت في قاعة المغادرة بمطار انواذيبُ في رحلة إلى العاصمة، جلست قرب باب الخروج بعد إنهاء الإجراءات المعهودة والشمس تضع خدها على مباني "اكراع النصراني" وقلبي معلق بالطائرة التي بدأ حشر أمتعة المسافرين في بطنها.
.
امتلأت القاعة على اتساعها بالمسافرين ومودعيهم من كل الأعمار والأشكال، وفي طرفها الأقصى لاح لي شخص يحمل كيسا صغيرا من الألياف النباتية يحوي حوالي نصف سعته، وهو يتنقل بين الناس يحادث هذا قليلا ثم يتجاوزه إلى غيره، ونادرا ما ينتقل عن شخص إلى الذي يليه! ولم يزل هذا دأبه إلى أن وقف في النهاية علي وسألني هل يمكن أن أصطحب الصرة التي بيده إلى من ينتظرها بمطار انواكشوط، فأجبت بالإيجاب المؤكد دون تردد، وأنا أشعر بازدراء المجتمع والحسرة على وصول أخلاقه إلى ما رأيت من رفض صرة خفيفة لا ضير فيها ولا ثقل لها. وقبل أن يفارقني الرجل سألته عن اسم من سيتسلم رسالته فقال: لا حاجة لذلك، أعطني اسمك وستسمع النداء به هناك، فأعطيته اسمي مع الحرص على سلامته ضمانا لأداء الأمانة، وانصرف شاكر.
كان متاعي قد أودع الطائرة فحملت الصرة في يدي ولم ألبث أن صعدت إلى الطائرة، وفيها جلست جنبا إلى جنب مع الوالي (أظنه الداه ولد الشيخ) ودخلت وإياه في حديث ذي شجون وأقلعت الطائرة واستمر حديثنا طيلة المسافة والصرة في يدي، وكانت معرفتي بتواضعه وبُعده عن الرسميات والصداقة الوطيدة بيننا على الأرض تطمئنانني أنه لن يرى في مجالستي له والصرة في يدي سوء أدب أو سلوكا غير مَرْضي.
بعد 35 دقيقة شددنا الأحزمة للهبوط وجالت الطائرة في مورها المعبد ثم عادت إلى مقامها المعلوم ففتح باب المغادرة وخرجنا, ولا أذكر إلى أين اتجه الوالي ولكني أذكر أني سرت مع غيري من عباد الله وإمائه "العامية والرعراع" (كما يسميهم أحد المتشبهين بالكتاب) إلى المسار المعهود لتسجيل الوصول واستلام الأمتعة، وأنني تصرفت تصرفات مريبة لم أنتبه إليها إلا بعد مضي وقتها!
حين وصلت إلى حاجز التفتيش كان الجمارك مشغولين ببعض رفقاء رحلتي فنكبت جنوبا ومررت خلف ظهورهم إلى حيث أستلم حقيبتي وأسلم رسالة صاحبي. وفي قاعة استلام الأمتعة عدلت عن الاختلاط بالناس فأخذت حقيبتي واتجهت إلى ركن قصي من المكان الفسيح أملا في التمكن من المراقبة وسماع من ينادي باسمي، وبقيت كذلك حتى خرج الجميع وبدأ العمال كنس المكان دون أن يسأل عني أحد!
خرجت وقد استبدت بي الحيرة والارتباك بشكل واضح جراء عدم وجود من يتسلم الرسالة وجهلي بمرسلها وعدم وجود حيلة لإيصالها إلى من التزمت تسليمها إليه أو إعادتها إلى مرسلها. لم أجد سيارة أجرة، ولم يكن النقل بحاله الآن، فقد كانت مجموعة من ذوي سيارات النقل الخفيفة تحرنجم على المطار أوقات الرحلات الجوية ثم تنفض بما يسر الله، وقد حرمني منها انتظار "غودو".
سرت في شوارع لكصر القديم التي ألِفَتْ خطاي وألفتُها منذ عهد بعيد. إحدى يدي مشغولة بحقيبة ثقيلة لكنها لا تجهد شابا قوي البنية في منتصف العقد الثالث من حياته، وريح الشتاء تنازعني ثوبي ويدي المأهولة بالصرة تتصدى ببسالة لأطماعها غير المشروعة، حتى وصلت متجر عمي قرب جامع الإمام بداه (رحمهما الله) فألقيت عصا التسيار ونغص سرور اللقاء التفكير في الصرة.. إلا أن ذلك لم يطل؛ فأثناء السلام توقفت شاحنة بيجو 404 أمام الباب الذي دخلت منه، وبعد خطاب بينهم وبين أحد أهل المحل أخبرني هذا بوجود من يسأل عني في السيارة التي أرى مؤخرتها، قلت له: ليتفضل، قال: هو في عجلة من أمره، ولكنه يريد رسالة بُعثت معك. شعرت باستغراب ممزوج بسرور فخرجت لأتأكد بنفسي، فإذا شابان لم تدع معلوماتهما شكا في أنهما المعنيان بالرسالة فسلمتها إليهما وعدت حيران في الموضوع.
أين كانا؟ من أدراهما بمساري؟ كيف علما أني هنا؟ وشيئا فشيئا بدأ يتضح لي من خلال كل ما جرى أن في الموضوع سرا عظيما وأني كنت أحمل شيئا خطيرا من الواضح من طبيعته وخفة وزنه أنه مخدرات؛ وهو ما استدعى من الشابين مراقبتي دون الاقتراب مني، فإن سلمت فبها ونعمت وإلا اقتصر الضرر عليَّ، فالقوم احتاطوا لأنفسهم دون أن أحتاط لنفسي أو أنتبه لها.
الغريب أني – وأنا أهرب المخدرت "لوجه الله- كنت في غاية الحرص على تجنب الشبهات؛ فلم أكن ألج مفوضيات الشرطة إلا لضرورة، وكان أحد أصدقائي مفتش شرطة ولديه سيارة للمفوضية، وكثيرا ما مر بي أسعى وأحفد على قدمي فيتوقف مصرا على حملي، ولكني أسلم عليه وأختلق له الأعذار، ولما أفنيت علاتي صارحته بأني وإياه لسنا سواء؛ فهو في سلك الشرطة وتجوله بسيارتها أمر طبيعي، أما أنا فمن رآني معه قد لا يعرف رابط الصداقة بيننا فيتصورني مجرما مقبوضا عليه أو مخبرا سريا في أحسن الأحوال!
كان الاعتقال لدواع جنائية (بل ولو جنحية) آخر ما يخطر ببالي في تلك الأيام؛ قد أعتقل لأسباب سياسية فقد كنت نشطا في العمل السري ضمن أحد التوجهات السياسية، ولا ضير عندي في ذلك، ولكن أن أعتقل بتهمة التهريب فهذا أكبر مما يمكنني تصوره، وتهريب ماذا؟ تهريب المخدرات!!
ويعيد الله التاريخ بعد أزيد من عشرين سنة (مارس 2009) فألتقي رجلا من "البيضان" المقيمين في إحدى الدول العربية المتاخمة للصحراء الكبرى جاء لاستقدام شخصيات تنعش موسما ثقافيا ينوي قومه إقامته، وزعم أن كل شيء جاهز وأن إحدى بلدياتهم وضعت تحت تصرفهم مكانا مناسبا يستوعب جمهور النشاط المزمع.
شرح الرجل من حال قومه وضعف ارتباطهم بدينهم وثقافة قومهم شبه ما ذكر يحيى بن إبراهيم لأبي عمران الفاسي، فعطفت عليه واستجبت لطلبه كما استجاب له اثنان من أصدقائي يمثلان النخبة الثقافية في البلاد، والتقينا مرارا وتدارسنا التفاصيل الدقيقة التي كان منها ضرورة اللثام ما دمنا هناك مراعاة لأعراف القوم واحتراما لتقاليدهم، وتسليم صاحبنا حقائبنا قبل الرحلة، والاتفاق على التعويض الذي نتلقاه عن السفر والمحاضرات..
بدا لي أني المعني وحدي بأمر اللثام فقد كان صاحباي يستعملانه، بينما تغطية رأسي من أصعب الأشياء علي، وبعد نقاش اقتحمت العقبة فاشتريت لثاما أسود ووضعته في حقيبتي.
أما تسليم الحقائب فلم أر فيه ما يريب، فنحن أضيافه ومن الطبيعي أن يكون مستعدا لحملنا على كاهله فحقائبنا أحرى.
لا أدري علام اتفق مع الزميلين ولكني رفضت تلقي تعويض واكتفيت بتحميل الرجل نفقات السفر والإقامة، وهو ما أزعج الرجل ورفض التسليم به فتفاوضنا في ذلك إلى أن اتفق معي على أنني لا أستحق تعويضا عن جهدي، ووافقت على أن لا أرفض ما قد يقدمه لي.
أعددنا جوازات السفر ولم يبق إلا الحجز الذي ارتأينا أن يكون بحيث نصل في وقت قريب من موعد رحلة داخلية إلى حيث نريد تفاديا لإقامة قد تصل إلى ثلاثة أيام أو قطع 2500 كيلو متر برا.
أثناء الانتظار اختفى صاحبنا دون سبب واضح وانقطع اتصاله بنا، ولست ممن يعذر في إخلاف المواعيد؛ ولم أشأ الاتصال بالداعي تجنبا لإعادة ربط الخيط من جديد فأشعرت رفيقَيَّ بعدولي عن السفر معهما راجيا أن يبلغاه بذلك عند الاقتضاء وانقطع الخبر عني رغم تعدد اللقاءات بيني وبينهما، إلى أن جرى ذكر تلك السفرة في حديث لي مع أحدهما بعد ثلاث سنوات من ذلك (2011) فسألته كيف كان الموسم الثقافي فأبدى استغربا وتعجبا من سؤالي، وفي النهاية أخبرني أن الرجل لا يهتم بالثقافة ولا العلم، وإنما هو مهرب للمخدرات، وأن من عادته أن يستخدم أشخاصا بعيدين عن الظنة لتمرير مواده الخبيثة؛ معيدا إلى ذهني حديثه عن ضرورة تسليمه حقائبنا قبل المغادرة.
وختم بالقول إنه شعر بأن الشرطة العالمية (إنتربول) تتقفاه فنجا بجلده، بينما جرى التحقيق مع الذين كان ضيفا عليهم، ولو ألقي القبض عليه ونحن معه لكنا أعضاء في عصابته، بل ولكنا أسوأ مصيرا منه، لأن حقائبنا تشهد علينا، وربما كنا الآن في سجن الدولة المقصودة فجمعنا بين محنتي السجن والغربة.
ولكن الله سلم، فله الحمد من قبل ومن بعد.
الأستاذ: محمد سالم بن جد