خلال إحدى أمسيات المؤتمر التأسيسي لضمير ومقاومة 2001 كنا متجمهرين على خوان بسطح فندق مطل على بحيرة سينلوي بالسنغال، نتناقش بعد ثلاثة أيام من النقاش الفكري الدؤوب لوثيقة المؤتمر "ميثاق العادلين" التي كان قد تم تحريرها بجهد مشترك بين جمال ولد اليسع، حفظه الله، و كان صيدو و حبيب ولد محفوظ رحمهما الله برحمته الواسعة.. كنا حينها مطاردين من طرف البوليسي السياسي الموريتاني، الذي يديره حينها المفوض دداهي ولد عبد الله. فاقترح جمال أن يتم تسريب خبر عن المؤتمر التأسيسي لتنظيمنا الرديكالي، اليساري، السري، لأحد أصدقائنا الصحفيين، رادّاً حجة بعض المتحفظين على ذلك بأن "العمل الجبار الذي قمنا به لايمكن أن يطمر في غياهب الجهل به". صدر الإجماع بتسريب الخبر بعد أن تنام عيون القنصل محمد ولد محمد عالي التي كانت تترصد أخبارنا في سينلوي.
سرّب ولد اليسع الخبر للمدير الناشر لصحيفة لاتربين محمد فال ولد عمير الذي تم اعتقاله بعد نشره، كما اعتقل رجل الأعمال بشير ولد مولاي الحسن بتهمة تمويل المؤتمر.
أما من حضر المؤتمر من "خلية نواكشوط": أنا، سيدي محمد ولد اليسع، سيدي محمد ولد تتا وسيد أحمد ولد اعل خملش، فكان الحصول على قائمة الخلية القادمة من باريس على متن رحلة واحدة أسهل من كشف أسمائها، فقد عدنا إلى وطننا لواذاً، حذرين نطأ على يابس الطحماء فلا يصدر صوتاً..
كانت تلك أول معرفة لي بالزميل عمير الذي زرته بعد إطلاق سراحه، و إن كان قد حاورني قبلها عبيد الله ولد حرمة في مقابلة مع "لاتربين"، أيام تشكيلي لتنظيم "الشباب الديمقراطي التقدمي" و إصداري لمنشورات "تداعيات شلة".. كما سبق أن التقيت به في قرية معط مولان 26 رمضان 1991 و أنا في طريقي إلى محظرة النباغية، (وسبب تذكري للتاريخ بهذه الدقة هو أنه في ذلك اليوم بالضبط توفي عدة أشخاص من قريتي برينه في حادث سير مؤلم) وقد لفت انتباهي بحديثه مع شخص إن لم تخني ذاكرتي فهو محمد ولد باگا، عن مشاكل تعترضه في ممارسته لوظيفته أستاذ تاريخ، فاقترح عليه السعي لحلها بوساطة، إلا أن عمير قال لي إنه لايمكن أن يستفيد من أية امتيازات بطريقة يدبج المقالات في انتقادها.
بعدها توطدت العلاقة بينني و المرحوم عمير، و التي تغذوها روافد شتى، فقد شهدِتُ، مدرجاً في قموط مهدي، على الصداقة الوطيدة بين خالتي آمي بنت الشيخ إبراهيم انياس واخته الفاضلة فاطمة بنت بناهي.
كنا نزوره غِباً في مكتبه القديم، غربي فندق سمير أميس، أنا وسيدي ولد اليسع و الحسن ولد لبات، أواخر حكم ولد الطائع، فيسقينا ماء زلالاً و شاياً أخضر و دلاءً مترعة بالفكر و التحليل.. نوافقه أحيانا و نخالفه أحايين، ولكنا نحترم له دائما رجاحة عقله و عمق نظره وحرصه على أن لا ينقطع النَفَس "التقدمي" و أن لايغيب الحضور اليساري من المشهد السياسي..
بهرني مرة في إحدى مجالساتي له في مكتبه، حين اكتشفت غزارة ثقافته العربية، حيث لم أكن إخاله غير فرنكفوني قح.. كان بحوزته حينها أحد دواوين محمود درويش فتحدث عنه حديث الدارس الداري، و العارف الغارف.. ثم عطف يجر أذياله تيهاً فوق خشبة الأدب العربي، شعره ونثره، فتحدث عن إعجابه بابراهيم الكوني ومحمد الماغوط وسعيد عقل، ثم نثر من كنانته درراً في فهم ونقد الأدب العربي..
كان يتصل بي كلما قرأ "حروف ناري" ليقول لي بعد أن يناقش بأسلوبه الشمشوي فحوى المقال الذي غالباً ما تفتقد لغته اللباقة الشمشوية: يخيْ نعرفْ الا عنك ذ التكتب لذيذة گرايتو.. (لا أعرف كم مرة كرر عليّ المرحوم هذه الجملة)…
كان أيضاً مع بساطته وتواضعه سموألياً في وفائه لصديقه بداح (حبيب ولد محفوظ)، فرغم أن بعض ألسنة السوء تركت "فُم مكشرْ" في علاقاتهما أواخر أيام حبيب، إلا أنه رافقه في رحلة علاجه للخارج، وظل ملازماً له، إلى أن لبّى داعي ربه.. فعكف على جمع آثاره، وحفر اسمه طغراء في ذاكرة الأيام.. فلم يكن ليخلو مجلس مع عمير من ذكر "بداح"، وهو يلوك اسمه و كأنه يتلذذ بمضغه.
بعد الانقلاب على ولد الطائع، وعودة منفيي نظامه التعسفي، كان منسق حركة ضمير ومقاومة صيدو كان يقيم في شقق مفروشة شرقي القصر الرئاسي، و كنت ملازما له، وكان ولد عمير مبعوث رئيس المرحلة الانتقالية اعل ولد محمد فال لمفاوضته، كما أنه من رتب لقاءه به..
بعد عودتي من المنفى، ألحّ علي في زيارته في مكتبه، فزرته مرتين.. وحدثني مُسهِباً عن رؤيته في تطوير وكالة الأنباء، و عن العراقيل و المثبطات التي تعترض طريقه.. و سألني عن مشاريعي فحدثته عنها..
كان دائما ذلك الطيب المتواضع، الذي ينتقي عباراته بأناقة، غير أنه لايتوقف عن نقد ما يجب عليه نقده.. فهو في كل تجلياته مثقف عضوي.
بعد إحالته للتقاعد، التقيت به في رمضان الماضي على هامش إفطار دعا له الوزير الناني ولد اشروقه مجموعة من الصحافة، لاحظت استياءه من "الفراغ" وقد تعوّد أن يملأ حياته بالنافع المفيد.. قلت له: إن الصحفي لايتقاعد، فليعد للكتابة و العمل الصحفي، فطمأنني أنه ينوي ذلك.. و أخبرني أن من فوائد التقاعد أنه أصبح لديه وقت أوفر لمجالسة أحفاده، العائدين من ألمانيا، مؤكداً على أنه ما كان يحتاج إليه.
زارني في الأيام الماضية في مقر TTV و طلب مني شرح المشروع له، وقدم لي نصائح و اقتراحات، و عرض علي فكرة تقديم برنامج تلفزيوني، وعد أن يبلور فكرته، وأن يفكر فيما إذا كان سيختار لتقديمه اللغة العربية أم الفرنسية.
زارني بعدها خلال الحملة الانتخابية.. و سألته عن فكرة البرنامج التلفزيوني، فرد ممازحاً: ما شفتَك متحمس لو.. فاجبته: بالعكس تماما، و لكن لا أريد الإلحاح بشأنه.. فقال لي: سنعقد بخصوصه جلسة عمل بعد الانتخابات.. و لكن يبدو أن أيادي الأقدار كانت تنقض غزل مشروع "البرنامج التلفزيوني" حيث لم يكن يخطر لنا ذلك ببال.!
هاتفني قبل أيام من البادية فلم تسعفه رداءة الخط، ثم تحدثت معه قبل يوم من وفاته، فشكا وعكة صحية ألمت به، وحمد الله على "نِعم ظاهرها نقم"، فقلت له: ذكرتني بطلعة تنسب للشيخ أحمدُّ ولد الشيخ محمد الحافظ:
ريتْ اللِّ يطربْ// لُكنتْ بگلبي
عظتني عگربْ// راسلهَ ربي
ومعَ ذاك اجربْ// حامدْلُ جَربي
فطرب لها، وطلب مني إعادتها، وقال لي: غريبْ ماگط سمعتهَ.!
كان آخر مرة يشنف فيها سمعي ذاك الصوت الممزوج برذاذ ضحكة.. و تلك الجمل التي يستهلها دائما بـ "شفتْ" و كأنه يحثك على النظر و التبصّر.. نعوه، في افواههم التراب، فنعوا أحد أساطين الرأي وسدنة الفكر ورعاة البصيرة و دعاة العقلانية و حماة الحرية..
نعوا رجلا لو ذرفنا من عيوننا نهر المسيسيبي لما منحناه حقه من الألم على فراقه.. فرحيله رحيل شعاع نور في وجه نافذة صماء تحكم رتاجها.. رحيل الغمام الصيّب عن الصفاصف الجرداء و الفلوات اليباب.. رحيل الطريق السالكة من وجهة الأقدام الضاربة عشواء..
فارحمه اللهم و اعف عنه وعافه، و اغفر ذنوبه واستر عيوبه، و اقبل عليه بمحض فضلك ورضاه..