بهذه الجملة عَنْوَنَ موريس دَ لافوس (MAURICE DELAFOSSE) أستاذ بمدرسة اللغات الشرقية في بايس، تأبينا رائقا للشيخ سِيديَ بابَه، نشرته صحيفة La Dépêche coloniale يوم 12 فبراير 1924.
واليوم، وبمناسبة الذكرى التاسعة والتسعين لوفاة الشيخ، أنشر مقتطفات من هذا النص ومن نعْيٍ آخر للشيخ غير موقَّعٍ نشرته صحيفة لَفيجارو (LE FIGARO) في الثامن عشر من الشهر نفسه. و قد اخترتهما من بين نصوص عديدة نعى فيها كُتاب أجانب الشيخ وأبَّنوه. ولا أعلم أن أيا من النصين المذكورين قد أعيد نشره قبل اليوم.
افتتح دَ لافوس تأبينه قائلا: «توفي يوم الخميس العاشر يناير، في خيمته المضروبة على كثبان أبي تليميت، الشيخُ سيدي بابَه، زعيمُ أولاد أبييري وشيخُهم الجليل، والمرجعُ الروحي لآلاف المسلمين المنتمين لطريقة والده. وذلك بعد مرض قصير وعمر لا يتجاوز اثنتين وستين سنة. لقد اختطف الموت رجلا متميزا بكل المقاييس، وشخصية هي الأبرز بين مسلمي غرب إفريقيا.»
ويقول في فقرة أخرى: «إذا كان هذا الشيخ المتفوق حقا لا يُخفي صداقته للفرنسيين المسيحيين، إلا أنه لم يتخلّ مع ذلك قِيدَ أُنْمُلة عن شخصيته المسْلمة، الواثقة، شديدة التمسك بدينها... إنه ذكي للغاية، ومثقف هائل، مولع بالدراسة والبحث، متلهّف لأن يرى المسلمين يتقدمون ويتطوّرون. وقد وصفه - محقا - ضابطنا المترجم بول مارتي بأنه ودود بشوش، بعيد عن التحجر. وهو يرى - نشعر بذلك ولا يخفيه - أنّ هناك في كل مكان شيئا من الخير. وأنه إذا كانت الحقيقة الدينية حكرا على الإسلام، إلا أنّ ذلك لا يتنافى مع التقارب الشديد بين تعاليم الإسلام وتعاليم الديانات السماوية الأخرى. وقد يخرج من المسيحية واليهودية رجال يتمتعون بمناقب عظيمه. ويرى الشيخ سيديَ أن الحضارة المسيحية تقدّمت اليوم على الحضارة الإسلامية؛ لذلك صار لدى المسلمين ما يأخذونه من مدارس فرنسا ومناهجها.»
ومن الجدير بالذكر أن دَ لافوس هذا كان زوجا لابنة فكتور هوداس، خبير الأعراق الفرنسي المشهور ودارس الأدب العربي، وكان من أول مراسلي الشيخ سيدي بابه من الفرنسيين.
أما النص الثاني، الذي نَعَتْ فيه صحيفة لَفيجارو الشيخ سيدي بابه، فقد جاء فيه: «سيذكر الضباط والإداريون المتعاقبون على الخدمة في مركز أبي تلميت - طويلا - ذلك الشيخ الوقور البشوش، صاحب الإيماءات النادرة، ووجهٍ وضّاءٍ كالشّمعة، تبدو في تجاعيده الصارمة آثار السهر والمشقة وحياة داخلية كثيفة. وغالبا ما يستفيد الجميع من الشيخ حين يتحدث ببطء، وبكلمات موزونة بعناية فائقة، ينتقد فيها، بطريقة ودّيّة وغير مباشرة، كل إجراء إداري لا يعجبه. ثم يقترح الحلول المناسبة ويلفت الانتباه إلى العواقب. وفي أحيان أخرى كثيرة، يُخضع الشيخ أولئك الفرنسيين لاستجوابات دقيقة حول أحداث العالم الإسلامي، والتنظيم السياسيّ والإداريّ في بلدنا، وعلاقات فرنسا مع القوى الأجنبية الأخرى... فتُنْبئك دقةُ أسئلته وكثافتُها عن مدى اطلاعه ومكانة تلك الموضوعات في فكره وتأملاته... وكان يحرص كل الحرص على أن يكون مثالا يحتذى في معاملة ممثلي بلادنا هنالك. لقد كان الشيخ سيديَ عالما، فقيها، نحويّا، شاعرا، مؤرخا. ولا يقتصر ذلك على العلوم الإسلامية المختلفة، بل إنه كان على دراية جيدة بمبادئ المسيحيّة... وكان يقِرُّ بأن الحضارة الإسلامية متخلفة اليوم، من الناحية المادية، عن نظيرتها الفرنسية؛ لذلك صار للأولى مصلحة في الاسترشاد بالأخرى...»
ويضيف المقال: «...إنّ هذا التفكير الحر، وهذا التحالف الصريح بيننا وبين شيخ مسلم لا يجادل أحد في صدقه وإيمانه، ساعد كثيرا في تشكيل عقلية عموميّة خَدمتْنا لدى قبائل موريتانيا السفلى، خصوصا الترارزة. فإنه يوجد حاليا في قبائل البيضان تلك من يعرفون كيف يستفيدون من تقدّمنا الإداري والمادي، دون أن يتنازلوا عن أي من معتقداتهم وقيمهم الإسلامية، ولا يطلبون غير مساعدتهم لنا في توطين ذلك التقدم وتكييفه مع قيمهم ومتطلبات حياتهم.»
وختاما لهذا الكعوب، نذكر بأن الشيخ سيدي بابه يعد أحد أكثر أعلام البلاد شهرة وتأثيرا. بل جزم العلامة ابَّاه بن عبد الله بأنه أبرز شخصية ظهرت في أواخر القرن الثالث عشر الهجري وأوائل الرابع عشر.
لقد استطاع الرجل أن يجدد - في زمن مضطرب وعمر متوسط - أصول الفقه والتوحيد، والسياسة والعلاقات الداخلية والخارجية. فضلا عن تجديده المعمق لمشيخته ومشيخة أسلافه، وسعيه الدؤوب - سِلما وحربا وتنظيرا - لإرساء أسس جديدة لتأمين الحضرة والعشيرة والجيران والبلاد جمعاء.
وهو الذي تصدّى لنازلة حارت فيها عقول العلماء والأمراء، فدبّج فيها فتاوى قوية متماسكة، وقدّم للوطن رؤية مستقبلية قلّ من خالفها دون أن يعود إليها في الآخر. ومن أراد أن يرى تفسيرا حيا عَمَليا لانبهار هؤلاء الكتاب وغيرهم بعبقرية الرجل، وسعة معارفه، ما عليه إلا أن ينظر في كتبه وفتاواه ورسائله. ومن أعظم ذلك وأدله على اطلاع الرجل ونفاذ بصيرته وقدرته على الاجتهاد والتحرير، رسالته المشهورة للعلامة سيدي محمد ابن حَبَتْ.
في هذه الرسالة اختصر الشيخ سيدي بابه، وبكثافة عالية وسلاسة غير معهودة شكلا ومضمونا، كل فتاواه بشأن نازلة الاستعمار، وردوده، ورؤيته. وكان مما فطِن له الشيخ وأبانته تلك الرسالة، عَلمانيةُ الدولة الفرنسية التي يرى أنها تخدم مسلمي البلاد وينبغي لكل مجتهد في نازلة الاستعمار أن يأخذها بعين الاعتبار، واصفا إياها وصفا دقيقا قال فيه:
«فقد تقرّر في قوانينهم المتفق عليها بينهم منذ حين عدمُ التعرُّض لأحد من أهل الأديان، كائنا من كان، وأنّ من تعرّض لصاحب دين من المسلمين أو غيرهم يعاقَب عقوبة شديدة. وقد شاهدنا مصداق ذلك. وقد رأينا من أسلم من الفرنسيين وغيرهم في اندر واندكار لا يعرضون له بقليل ولا كثير. بل يكادون تكون النصرانية وسائر الملل عند جمهورهم الآن سواء. بل عونهم على إظهار شعائر الإسلام ببناء المساجد وإقامة الأئمة فيها، والمؤذنين، والقضاة، والمدرّسين، وإجراء أرزاقهم من بيت مالهم كلّ حين، أمر مشهور. وغير مستحيل على الله تعالى وقدرته أن يؤيد دينه بالمخالفين أو يقودهم إلى الدخول فيه، كما فعل بالدّيلم والسّلجوقيّين وبني عثمان. والله على كل شيء قدير.» إلى آخر تلك الرسالة العجيبة.
أ-ش-س