تبدو هذه المسألة صعبة جدا أو يريد البعض بالأحرى تعقيدها أمام الفهم السليم: محاكمة محمد ولد عبد العزيز مباشرة بعد خروجه من السلطة كمسار طبيعي بل إجباري بناء على طريقة وطبيعة أدائه في السلطة، وليست تصفية حسابات سياسية يراد بها عزله عن المستقبل كما يريد دفاعه توكيده ولو بشطط، ضمن ماهو مشروع له من وسائل الدفاع، وهنا يجب الفصل بين ماهو واقعي وما هو مجتر.
ومع كل ذلك تبقى هذه المحاكمة مرحلة لابد أن تستوعبها الناس وتفهمها وتتعامل معها بشكل طبيعي دون اقفال التيارات الرئيسية للتأثير فيها ،إنها بالأساس حدث قبل أوانه بالنسبة لاكتمال النضج …
لكي نفهم ذلك علينا أن نتساءل كم مضت فرنسا من عمر الدولة قبل أن تحاكم رئيسا وتجري محاكمات باسم محاربة الفساد؟! الجواب أنها أمضت أكثر من مئات السنين قبل القدوم على ذلك. والسبب أن قوة المؤسسات ونضج المجتمع ودقة التنظيم وصلت بشكل متأخر عن وجود الدولة الفرنسية نفسها…الحقيقة أنه لابد من تجربة كبيرة …وهنا يطرح السؤال أمامنا: إذن وكيف نفعل نحن ذلك بهذه السرعة وبتجربة أقل بالنسبة لكيان الدولة؟! ،إنه بتأثير الانتماء وتأثرنا بهذا العالم ، بالعالم “القرية الواحدة “.
في السابق كانت الدولة “المدينة “وكانت الامبراطورية عدة “مدن” و لم يسبق للعالم أن عرف هذا النوع من سرعة التواصل والتأثير المتبادل حيث ارتمت موريتانيا في أحضان هذا العالم “الحر” ،إنها ترفع شعار الانتماء لهذا العالم ،لكن بخصائصها، ولذلك فإن موريتانيا بمؤسساتها غير القوية وبضعف دقة تنظيمها أقدمت على الخطوة بخصائصها التي تهملها النخبة دائما في عملية الاسقاط أو التكييف حيث تعمم جميع المعايير الدولية بحاذفرها حتى تلك نفتقدها بالأساس، على تقييم تجربتنا، إنها تحمل في طياتها ظلما عتيدًا للبلد.
من قال أن مجتمعنا جاهز لهذا النوع من الأحداث وبإجماع؟ إنه فقط متأثر بعنصر التثاقف ولذلك لا يمكن أن نطبق عليه نفس المعايير الفرنسية والامريكية ..إنه جاهز بصفة شكلية ، عندما لا يمسه ذلك بشكل مباشر أي يمس أحدا من الأهل والأقارب، لكن في حالة العكس يكون هذا العمل انتقائيا وغير مهني وسياسيي ويكون جزءا كبيرا من الشعب غير جاهز وينفّض الاجماع …ومع ذلك تظل الأغلبية متمسكة ومصممة على المضي قدما بدافع التأثير بأهمية وتاريخية هذه الخطوة …
وهكذا تندرج محاكمة عزيز ضمن التجربة الموريتانية(بخصائصها وروابطها ) ،إنها بداية لدورة من تاريخ البلد، وهذه البداية لابد أن تحدث ولابد أن يكون هناك شخص أو مجموعة نبدأ من خلاله ،لكن -وهذا هو أهم شيء يجب الانتباه إليه – إنها بداية وليست نهاية سيعتريها كل ما يعتري البدايات من نقص وإن كانت من أحسن البدايات وأكثرها اكتمال العناصر الأساسية ،إننا في واقع الأمر بحاجة لتصحيح الفهم العام ، كون ولد عبد العزيز هو الذي تتم محاكمته اليوم فهذا لا يعني استهدافه بل لأنه كان موجودا عند انعطافة التاريخ الموريتاني ،فهناك أمور لا يريد أحد من أهل البلد أن يراها تتكرر :درجة معينة من الفساد ومن طحن الدولة ومن تجاوز القانون والمؤسسات ومن حكم ديكتاتوريةالفرد. المجتمع لن يرضى بهذا المستوى البدائي من إدارته .. لابد من التصحيح ،وسيكون لزاما على المؤسسات اللحاق بالشعب الذي أخذ يرفض هذا النوع. إن دورات التاريخ كلها تمشي على هذا المنوال : الشعب دائما يقلب الطاولة على المؤسسات ويسبقها ،اللحاق بالشعب بواسطة التنظيم والنضج الذي يعني في النهاية درجات أعلى وادق من التنظيم والقوة و الإستقلالية ،أي المستوى الذي يضمن حماية هذه الدولة والمجتمع وهذه المؤسسات وهي تقوم بواجباتها بصفة مجردة …إن شعبنا اليوم يدشن هذه المرحلة ،مرحلة قلب الطاولة على المؤسسات، لكن ليس اكتمالا للنضج بل هي البداية ..أي نقطة البداية ، لكن بكل زهو الذي هو الوصول لهذه المكاسب في ظل وضع طبيعي ليس وضع حرب ولا ثورات ، وهنا تكمن أهمية غزواني المتوازنة ضد الذاتية ،كونه لم يُدخل نوازعه ولا مشاعره في العملية الوطنية ولم يستغلها لمصلحته ولم يقبل أن يبقى عقبة في الخلف ولم يحاول أن يتجاوز طموح الشعب بل حاول أن يظل بموازاة تلك المطالب وبموازاة مستوى المؤسسات والتنظيم والشعب نفسه ،فأي خطوة للأمام بشكل أسرع ستفسد كل شيء، وأي تأخر بشكل أبطأ سيفسد كل شيء أيضا ،إنه رئيس بارع، دعونا نحقق حرية الاختلاف حول هذه الحقيقة التي ستظهر في الأخير بشكلٍ عتيد .نحن لا نملك دولة منظمة ولا مؤسسات قوية، المؤسسات تدار من طرف أشخاص ،أبناء أسر ،وأبناء قبائل ،وأبناء جهات ،وأبناء اثنيات وشرائح. هذه ليست دولة المؤسسات. التجربة لم تخلصنا بعدُ من تلك الرواسب ، والدولة والقانون هنا لخدمة مصالح ذاتية بدرجة كبيرة: هذه مشيئة تجربتنا ، لابد أن نقبل بأن تغييرات كبيرة في الميكانيزمات والآليات الرئيسية للنظام العام لا يمكن أن تحدث دفعة واحدة ، هناك تجاوزات كبيرة للقانون وستظل لمدة طويلة قبل أن يتخلي المجتمع عن أبنائه لصالح القانون والنظام والمؤسسات ، وحتى في تلك الحالة ستوجد قوانين من أجل خرق القانون كما في الدول العظمى ،لكن هل يمكن أن ننتظر حتى تنضج جميع الفروق لأعلى درجات التنظيم لكي ننضم للعالم “الحر” الذي يريد وضع حد لنمط معين من تسيير الشأن العام والاستيلاء عليه بطريقة ضد تحقيق المصلحة العليا !محاكمة عزيز يجب أن تفهم على أنها خطوة مفيدة للشعب الموريتاني نحو حماية نفسه مَن سلطان الفرد وضمان مستوى معين من الشفافية …التجربة الموريتانية بالنسبة للمتبع للاصلاحات السياسية والقانونية والادارية متساوقة نحو النضج وقد جاءت دائما عبر حوارات سياسية وعبر نقاشات ومطالب بتحسين مناخ وشروط وظروف العملية السياسية. وقد كان أول من حاول العودة بها للوراء هو محمد ولد عبد العزيز نفسه فقد محا الغرفة العليا في البرلمان التي كانت تتيح قراءة ثانية للقوانين وتزيد من إثراء الهيئة التشريعية ولأن غرفة النواب شعبوية أكثر فكانت غرفة الشيوخ نخبوية لكن عزيز محاها بجرة قلم كما اتجه نحو تمييع الاستفتاء على الدستور وقام باستفتاء مشحون بالعواطف وعبثي وبلا معنى، كان الهدف الأساسي منه كسر قفل المأموريات ،ولم يفهم أن سبب وضع قفل على المأموريات هو قراءة ثانية للتجربة الموريتانية واستخلاص الدروس والعبر وكبح “الفرعنة “، فخلال خمسين سنة من نظام الجمهورية أمضى رئيسان 40سنة من تلك الفترة وكانت النتيجة مطالب عالية بالاصلاح وفرحة عارمة بالزوال …وهكذا كانت مطالب الشعب والنخبة متحدة حول الحد من هذه الهيمنة المملة…هذا كله ليس من فراغ. إنه من تراكم الوعي والضجر والاحساس بالغبن ….نحن اليوم لا نحاكم عزيز كشخص لكن نحاكم أبهة وعصمة الرئيس، نحاكم سلوكا لم يعد مقبولا، نحن اليوم نعلن للعالم أننا أخذنا انعطافة جديدة ….ومهما كانت طبيعة الحكم في هذه المحاكمة ،أو مهما كانت نهايتها فهي تأكيد أننا في النقطة الصحيحة على بداية الطريق ….هذه الأصوات وهذا الشحن وهذا الاصطفاف مع وضد المحاكمة لا يهم ولن يغير من الحقيقة و الهدف والدروس المستخلصة، بل هو جزء من المرحلة وتأثيراتها .
إننا في الواقع لا نحاكم عزيز بقدرما نوجه رسائل لأي رئيس بأن بيع المدارس غير مقبول ، وأن إخفاء ملايين الدولارات مثل هبات السعودية و الأموال القادمة من ليبيا غير معقول، وأن تسيير الدولة بالأوامر والتعليمات بعقد الصفقات ليس صك أمان من المتابعة …وأن ترك بواخر تصطاد بلا رخص وتجمع مقبوضاتها في باخرة “سلة “لمصلحة الرئيس غير مقبول…..وأن استخدام السلطة لأغراض خاصة غير مقبول وأن …كل هذا غير قانوني ويجب محاكمة مقترفيه مهما كانوا ،وهكذا تكون المحاكمة “عدالة بحد ذاتها “وضرورية لتجربتنا . هذه هي رسالة الشعب الموريتاني من وراء هذه المحاكمة وعلى القضاء أن يترجمها بوضوح وبصوت عال كما فعل ذلك البرلمان ….
إن الفهم السليم ذلك الذي يرى أننا ندخل مرحلة حرجة وغير مؤسسة من تاريخنا الحضاري وأنها لحسن الحظ تساق في كنف شخص متوازن يؤمن بالتراكم وينطلق من مفهوم الدولة “المؤسسة “ذات المسؤوليات والصلاحيات المتدرجة. وبهذا نكون بصدد انطلاقة مضمونة النتائج تقوم على بناءوتقوية المؤسسات ضمن مسار موحد وطويل ويتطلب بعض الوقت :الموظفين يعملون اليوم كمسؤولين وليسوا كخدم يشعرون بوطأة الخضوع والتبعية العمياء ، هناك دورات طبيعية لعمليات الرقابة والتفتيش لاتفرق بين المسؤولين وليست مسلطة على أحد ولا تخدم الابتزاز أو التوريط ، وهناك محاولات جادة بفصل السلطة لمنح المؤسسات صلاحياتها كما يحدد ذلك القانون.
النتائج الكبيرة لذلك هو انقاذ العديد من شركات الدولة من الموت وبعث أخرى طمرت في عملية فساد واسعة ،وإقالة عشرات المسؤولين الكبار بسبب شبهات فساد وأخطاء تسيرية لا يوجد من هو بنجوة من ذلك ،ومضاعفة مداخيل الدولة وبناء المشاريع ،وأن لا يوجد من يخشى الظلم أيًا كان ،ولا من يخشى سرقة مجهوده أو تسليط الضرائب عليه لأسباب سياسية أو منعه من حقه لنفس السبب أي لا يوجد توجه في الدولة تحركه الأغراض ضد الناس ومصالحها ،هذه هي المراحل الأولى والأساسية لبناء الدولة الوطنية “دولة المؤسسات والقانون” وهذه ليست إلا بداية …