يوافق اليوم 14 آذار الذكرى السادسةَ لوفاة أحمد باب بن أحمد مسكه رحمه الله تعالى وأبقى في الصالحين ذكراه.
وليست هذه الموافقة رقمية فقط هذه المرة، بل "يومية" أيضا (الإثنين) وهو أيضا يوم انتقال سيد الوجود سيدنا محمد بن عبد الله نبي الرحمة، الرحمة المهداة، كما أنه يوم مولده صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
لقدْ مَنَّ الله تعالى عَلَيَّ بِأَن جالست السيد أحمد باب عدة مرات، تناولنا إبّانها ما تناولنا من الحديث الممتع المفيد الذي لطالما تمنيت أن لا ينقطع، ولطالما استحضرته كلما خلوت بنفسي وإلى الآن.
واستفدت منه كثيرا من ثمار العلوم التي هي الأخلاق والمُثل العليا.
وكثيرا من شتى الفوئد والآداب والحقائق التاريخية...
و مما استخلصت من مجالسي معه أنه على مستوى عالٍ من التواضع وعدم الالتفات إلى مزاياه الشخصية. وإن سألته ـ كغيري ـ عن بعض القصص والمواقف الشخصية العجيبة التي تحكى عنه فإن جوابه لا يكون عادة إلا من قبيل: '' ألاَّ اِڭدّْ اِعودْ خالڭْـ شـي منْ ذاكْ ''، أو'' ما نَعْرَفْ آنَ ذَ ڭاعْ ناسِيه '' ... إلى غير ذلك من العبارات العميقة في اللغة الحسانية (المدَّيْمْنَه !) التي يفهم المتأمل لها (حَدّْ اِنَزَّلْه !) أن صاحبها ناكب عن الإعتراف بقدره.
ومن طريف ما مررْنا به أنني سألته ذات مجلس عن ترجمة عبارة فرنسية مسجوعة وجدتها في كتاب لرائد الفكر الوجودي :Jean-Paul Sartre :
Oignez vilain, il vous poindra, poignez vilain il vous oindra.
وقلت له إكمالا لسؤالي قبل أن يجيبني إنني كنت قد فهمت أنها تتناصّ شيئا ما مع:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكـــــــــــــــته 🌟 وإن أنت أكرمـــــــــت اللئيــــــم تمردا
فَأقَرَّني على ذلك؛ وجعل يحدثني أن اللغات عميقة وبها بعض القواسم المشتركة... وربما فاتني - لقلة نضجي - بعض ما أتحفني به في هذا السياق.
فواصلت الإلحاح عليه لأسبر غوره وأستخرج أقصاه.
فأردف قائلا من قبيل ما ذكرت أعلاه:
" نَحْنَ ڭطّْ ذيكْـ السَّاعَ اتْباركْنَ مَحَدّْنَ اسْغارْ امْعَ الفَرَنْسِيَّ واعْڭبْنَ انْسَيْناهَ اِليْنْ اكْبرْنَ "...أو قريبا من هذه الحروف.
وسألني بعدها أين وجدت هذه الجلمة فقلت له إنها في محاضرة لـ (Sartre)
ألقاها في باريس عام 1945م .
وكتمت عنه أن تلامذته (أعني Sartre) دونوها ثم وضع عليها
آخر اللمسات وصارت كتابا طبع في السنة الموالية أي:1946م، والكتاب عندي وعنوانه:
L'Existentialisme est un humanisme
وسبحان الله إذ أنني في قرارة نفسي اختبرته ـ لعنفوان الشباب ــ (اتْبَعْريصْ المُراهْقِـيَّ): هل يعرف هذا الكتاب؟ لِما سمعت عنه من سعة اطلاع وإلمام بالكتب ومؤلفيها وأهل الفكر على اختلاف مشاربهم.
ففاجأني بأن ابتسم قائلا(ذاكـ اثْـرُ ما اعْڭـب عاد اكْتابْ؟).
فلا أدري هل هو من اطلاعه الواسع أم هو كشف حباه الله به، ولا أستبعد اجتماع الاحتمالين وقتئذٍ!
وقد تخَـلَّلَ حديثَـنا قدْرٌ من الطرافة ورِقَّةِ العِبارة وعُذوبَة المَعْنى... وربما ألجأني الإختصار إلى عدم التعريج على كل ذلكـ .
وسألته عن أدبه الذي ربما ضاع بعضه، كيف لى أن أجمعه؟ فأستفيد منه وتحظى الأجيال القادمة به.
فأجابني قائلا ما مقتضاه:
إنَّ الذي رُمْتَ لم يَجِدْ من يرومُه قَبْلكـ، وأظن أن ما حُفِظَ من أشعاري حُفِظَ، وما نُسِيَ منها نُسِي، وليس مهما. وشيئا من هذا القبيل.
فانظر إلى تواضعه رحمه الله تعالى عن الانهماكـ في إبراز أدبه وأشعاره فلا تجده يلقيها في المحافل ولا يستطردها ولا يُعَرِّجَ عليها إلا نادرا جدا وخاصة إذا ألح عليه السائل.
هذا مع أن أشعاره فصيحا وملحونا في غاية الرقة والجزالة والرصانة وحسن السبكـ وسرعة الولوج إلى قلوب سامعيها واطمئنانهم إليها... فتباركـ الله أحسن الخالقين.
أذكر منها مثالاً لا حصراً مَديحِيَّتهُ للنَّبِيِّ صلى الله عليه سلم التي يقُول في مطلَعِها :
أَقولُ لمَنْ تُسائِلُ عن مديحي 🌟 لخيرِ الخَلْقِ بِالشِّعْرِ الفَصيحِ
أَلَيْسَ بِمُسْتَحِقِّ المَدْحَ مِنِّي 🌟 مَن اِعْجاباً إِلَيْهِ تَحِنُّ روحِي
لِمَنْ أُهْدِي الْقَرِيضَ سِوَاهُ إِن لَّمْ 🌟 يُصَنْ لِمُجَرَّدِ الْفَخْرِ الصَّـرِيحِ؟
وَإِن لَّمْ أُعْنَ بِالطَّبْعِ التَّغَنِّي 🌟 بِكُنَّ صَوَاحِبَ الْقَدِّ الْمَلِيحِ؟
ولا غرو فأحمد باب ــ فضلا عن كونه من بيت علم ونبوغ وسؤدد ــ فإنه أيضا على مستوى عال من التضلع بعلوم اللغة نحوا وصرفا وعروضا وبلاغة: بديعا وبيانا....
كنت أنشأت فيه مرثية ثم قلت بعدها بفترة أبياتا تأملية في بحر الخفيف، أنشرها في ذكراه اليوم:
صاحبَ الطَّلْعَةِ البَهِيَّةِ إِنِّي 🌟 لَسْتُ أَنْسَاكَـ يا فَتى الإقدَامِ
لَكَـ قَلْبِي بِصِدقِ حُبٍّ عَلَيْهِ 🌟 مـا أنَا من نُدَّامِه السُّــدَّامِ
رَحَــماتٌ عليكَـ ليْستْ تَناهى 🌟 يَا أنيقَ الضَّمِيرِ والهِنْدَامِ
وأزيدُها اليوم بهذا البيت:
وعلى المصطفى صلاة جلال 🌟 وجمال من سائر الخُدَّامِ.
البشير بن أحمد مسكه بن حبيب.