إن تاريخ نشأة التعليم النظامي في بلادنا منذ ثلاثينيات القرن الماضي على عهد الاحتلال المباشر الذي عرفته بلادنا، كما الجزائر، والدول الافريقية المجاورة، ولعله يمثل فترة طويلة لم يتحقق بالتعليم ما ينبغي، ذلك أن النتائج المرغوبة على مستوى التعليم، كانت هزيلة، إذ لم تحقق في البلاد نهضة فكرة في أي مجال، ومن هنا ارتفعت الاصوات الوطنية الى ضرورة الاصلاح التعليمي في العام 1978م.، ومعلوم أن الاصلاح التعليمي، هو المدخل للحداثة في المجتمعات العربية، والافريقية التي طرقت ابواب العصرنة، إما بالثورات السياسية، وإما بالاصلاح التعليمي، وإذا اقصينا الأخير، فسيبقى التعليم فاقدا وظيفته في الحياة الاجتماعية، لعجزه عن إعادة تأهيل الانسان الموريتاني، وتأثيره المباشر على الهوية الوطنية، والقومية.
ومن هنا يتضح للجميع، أن الأمر يتعلق بما هو اشمل من الرؤية الضيقة تجاه نظام التعليم، رغم أهميته، ونظامه الاصلاحي المتطور باستمرار، وحاجة المجتمع الى الخروج من آخر حقبة من حقب الركود الثقافي، الى التنمية العلمية، ومستنداتها في الواقع الموريتاني، وذلك لتغيير رؤيتنا تجاه انفسنا قبل تغييررؤى الآخرين تجاهنا،، فالحاجة الى تطوير النظام التعليمي مرتبطة بتغيير السلوك لدى الفرد، وحياة الاسرة، ونظام المعيشة العام، والخاص؟
ومن أجل ذات الأهداف، فعلينا أن نكون رؤية عامة تستند الى ما توصل اليه فلاسفة التربية، وعلم الاجتماع، وطواقم التربة، وذلك للتمكن من اكتشاف الذاتي الوطنية، وتوظيف قدراتنا على تجاوز الوعي ب"المشكل" الحاصل الآن، وتجاوزه الى البحث عن الحلول بالنظر إلى الاصلاح التربوي الذي يقود التنمية العلمية المستدامة..
لقد فكرت في تقديم معلومات عن تاريخ الإصلاح التعليمي خلال القرنين الماضيين،، ولكن هل يسمح المقام بالحديث عن الاصلاحات التعليمية لدى المجتمعات المعاصرة جملة، أو تفصيلا؟
لا، طبعا.
لذلك أرى أنه لا قيمة لتذكير القراء بأن فرنسا، حين بدأت تفكر فى الاصلاح التعليمي، طرح التربويون، السؤال حول إمكان تعويض الزعيم السياسي بسهولة، خلافا للمهندس الذي يحتاج تكوينه الى تخصص دقيق خلال تعليمه الذي يمر بمراحل طويلة،، ومن هنا كان الاتجاه نحو التخصص العلمي، والمهني أكثر من غيرهما،،
وعندما أراد النظام " السوفييتي" السابق، الاصلاح التعليمي، فلجأ الى الفيلسوف وهو العالم التربوي الامريكي" جون ديوي" الذي رفض النظام التعليمي الامريكي فلسفته العملية التي أسماها " الوسيلة" في فهمه للجانب الوظيفي للعقل، وللفكر معا، وذلك لحل المشاكل التي تواجه الفرد، والمجتمع، كما تواجه النظام السياسي معظم العقبات لتحقيق الديمقراطية السليمة،،،
وتلك الرؤية الفلسفية، كانت نتائجها العملية هائلة في تطبيق الاصلاح التعليمي، ومن نتائج الأخير، ذلك التقدم العلمي الذي مكن الاتحاد السوفييتي من غزو الفضاء قبل أمريكا في ستينيات القرن الماضي،،
ونحن الآن في الالفية الثالثة، لانجد قيمة تذكر لتتبع الاصلاح التعليمي في كل دولة، لأنه متطور في كل فترة بعد اخرى،، ولكن المشتركات التي اجمع عليها التربويون أهمها:
أ ـ اعتماد اللغة الأم في التعليم، كوسيلة للتدريس بها في جميع مراحل التعليم، ولمختلف المواد التربوية، والتخصصات الادبية، والعلمية، وليس معنى ذلك عدم تعلم اللغات الأخرى كمواد، ولتكن اللغة الفرنسية واحدة منها، والانجليزية على أن يكون ذلك ابتداء من المرحلة الثانوية، وليس قبلها..
ب ـ الزامية التعليم في المرحلتين: الابتدائية، والاعدادية.
ج ـ تعليم الكبار لمختلف الجنسين،،وفتح مجالات مهنية عديدة، كالخياطة، والنجارة،والحدادة، والدهانة، والطبخ، وغيرها من المهن اليدوية التي لا غنى عنها،،
د ـ اعتماد مبدأ التحفيز بالمنح الدراسية الرمزية في شكل راتب لكل من يدرس، ويحتاج خلال فترة الدراسة الى الاعانة المادية،،،
ه ـ فتح مراكز للتدريب، وخلال فترته، يحفز المتدرب بمنحة حتى يجد عملا فيها، وذلك للحد من البطالة، وهي السياسة التي اعتمدتها الدول الاسكندنافية لتجاوز الأزمات الاقتصادية، وتداعياتها على حياة الفرد، والاسرة..
إن فتح أبواب التعليم للجميع كبارا وصغارا، يفرض على المجتمع، الاستناد الى اللغات الوطنية جميعا، وأولها اللغة العربية.
ولا يفوتنا الاشارة الى أن محاربة الاصلاح التعليمي من طرف الامبريالية الفرنسية في أقطار المغرب العربي، من الحقائق الواضحة للكل، وليست خاصة بموريتانيا فحسب، ولعل التدخل المباشر، والضغوطات الهائلة التي تمارسها فرنسا على النظام السياسي، سواء أكان المغربي، أم الجزائري، والتونسي، أم الموريتاني ، لدليل قاطع على وحدة العدو، ومحاربته للمستقبل المشترك لمجتمعات الأمة العربية، ومن هنا كان إدرك الجميع أن التقدم العلمي، هو المقدمة الأولى للتحرر السياسي، والتغيير الاجتماعي الذي يستند الى منظومة من الاجراءات التي تحرر الاوطان من الهيمنة الخارجية، وأول هذه المنظومات الاصلاح التعليمي، ونبذ اللغة الفرنسية في التعليم، وفي الادارة، وفي الاعلام المرئي والمسموع، لأنها تشكل وعيا استلابيا، وسلوكا متماهيا مع خصائص الهوية الثقافية للآخر،،في مقابل اقصاء الذات الوطنية، وثقافتها وقيمها الدينية، والقومية التي تجد مفتاحها في اللغة العربية،،
ونحن متفائلون بهذا الوعي المنامي ب"المشكل" الحاصل في التعليم بعد إفساده خلال عشرين سنة منذ (1999م.) جراء التدخل السافر لفرنسا في فترة الانظمة التابعة،،
والجدير بالتنبيه اليه، هو أن الاستجابة لمطالب المجتمع في الإصلاح التربوي، تعتبرالمعيار للحكم على وطنية النظام السياسي الحالي، وتحرره من التبعية السياسية، والثقافية للمحتل الفرنسي الذي لا يملك وعيا تاريخيا بأن وجوده الاحتلالي، يشكل وصمة في حاضرنا، وتحديا للمتغيرات الوطنية التي تفرض التحرر من كل القيم التي ترمز للوجود الفرنسي، و مخلفاته السابقة، وتاريخه الاستعماري المدان...