تكتسب إثارة النقاش حول موضوع “إعادة اكتشاف” وتقييم التراث الثقافي والعلمي الأفريقي المكتوب باللغة العربية أو بالحرف العربي المُهجَّن إفريقيًا والمسمى “الحرف العجمي”، في بلادنا وكذا في عموم منطقة الساحل والغرب الإفريقي، أهمية تتجاوز بكثير “راهنية” الموضوع ورهاناته في لحظات التجاذب السياسي، نحو مزيد من تعميق البحث العلمي حوله من أجل الوصول إلى معطيات علمية مبرهن عليها في إطار العلوم الإنسانية، قد تؤسس هي بدورها لقناعات سياسية مختلفة، أو تعمل على ترشيد خيارات سياسية تكون أكثر عقلانية من حيث التعامل مع الواقع والإكراهات المحيطة به في بلادنا ومنطقة الغرب الإفريقي.
إن ما نتطلع إليه هنا هو تعميق بعض النقاشات المفيدة التي تجري حاليا ضمن منتديات حوارية عبر الواتساب ومن خلال شبكات التواصل الإجتماعي، حول أهمية “إعادة اكتشاف” وتقييم ذلك المخزون التراثي الثقافي والعلمي الأفريقي المكتوب باللغة العربية أو بالحرف العربي، خاصة في بلادنا وعموم منطقة الساحل والغرب الإفريقي، من خلال قراءة جديدة تؤصل وتثمن أكثر المشتركات بين ما يعتبر “عربيا” و “إفريقيا”، بدل الإستمرار الواعي أو غير الواعي في عملية إعادة إنتاج وترسيخ الفوارق الحدية بين هاتين المرجعيتين وافتعال الخصومات بينهما، التي طبعت مناهج وأبحاث الدراسات الإستشراقية الكلاسيكية، والتي تبنَّتها فيما بعد الدراسات الإستعمارية. وقد تأسست تلك الرؤية على تصور مرجعي قوامه أن الدراسات الأتنولوجية الأفريقية التي تطورت، في أشكال مختلفة أثناء الحقبة الإستعمارية سواء من خلال عمل الباحثين أو ممارسة الإداريين وأعوان السلطة الإستعمارية، قد ظلت تفضل رؤية “أفريقيا الأصلية” بشكل يحرص على اعتبار الإسلام والكتابات باللغة العربية التي جاءت معه أو نتجت عن انتشاره، مجرد عناصر خارجية و دخيلة على الكيان الإفريقي موضوع تلك الدراسات الأتنولوجية.
لذا، لم يكن عمق إفريقيا الإسلامية، خاصة في مجال الإنتاج الثقافي والعلمي المكتوب باللغة العربية موضع بحث مكثف، بل لم تكد الدراسات الإستشراقية الكلاسيكية في القارة الإفريقية تتجاوز شريط الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، في اتجاه عمق القارة الإفريقية.
وهكذا، انهمك المستشرقون الأوروبيون منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر، بشكل حصري تقريبًا، في دراسة بلدان المنطقة العربية الوسطى وإيران وتركيا العثمانية، في مجالات مختلفة مثل اللغة والتاريخ والفكر والثقافة عموما.. أما كل هذه المنطقة الشاسعة الناطقة بالعربية أو المُعربة كليًا أو جزئيًا، التي تمتاز بإنتاج معرفي غزير ومكتوب باللغة العربية، والتي تمثلها اليوم موريتانيا وبلدان الساحل والغرب الإفريقي عموما، فقد ظلت خارج مجال البحث الاستشراقي، وهو ما تسبب في ضياع الإنتاج المعرفي فيها في مجاهيل الصحراء، بعيدًا عن المراكز السياسية الكبرى لما كان يعرف بالإسلام الكلاسيكي، والتي كانت تستأثر بالأضواء في فترات سابقة..
وقد حصل ذلك رغم المفارقة والتناقض الواضح الذي طبع أعمال المدرسة الإستشراقية، حيث يعود الفضل في التعرف على تاريخ وجغرافية إفريقيا الساحلية السودانية القديمة بشكل أساسي، إلى كتابات الرحالة المسلمين الرواد مثل ابن بطوطة وأبو عبيد الله البكري، والإدريسي، وحسن الوزان المعروف بـ “ليون الأفريقي”، وابن جبير الأندلسي، وابن حوقل، والمسعودي، والتي شكلت مؤلفاتهم عن تاريخ وجغرافية المنطقة الأساس الصلب للدراسات الإستشراقية نفسها، خاصة بعد ترجمتها إلى اللغات الأوروبية.
ولعل غرابة هذه الظاهرة، تعود لأسباب سياسية بالدرجة الأولى، كما يشرح ذلك الباحث الألماني ح ج. شميتز، مؤكدا بأن “استبعاد الإنتاج الأدبي باللغة العربية في منطقة جنوب الصحراء المسلمة، من الدراسات الإستشراقية، قد تمت من خلال عملية مزدوجة مرتبطة بالسياسة الاستعمارية الفرنسية في المنطقة والعالم، وتتلخص في ضرورة فصل المسلمين السود عن بقية العالم الإسلامي، والحرص على تكريس الفصل الإثني كمعطى قار داخل بنية الإسلام السائدة. “
ونتيجة لهذا الواقع، وفي ظل غياب الباحثين العرب المهتمين بأفريقيا المسلمة حتى بعد الإستقلال، ظلت المصادر المكتوبة باللغة العربية في القارة الإفريقية غير مكتشفة إلى حد كبير حتى بداية القرن الحادي والعشرين. لكن ما يكتشف يوما بعد يوم، من خلال قوائم الجرد وكتالوجات المخطوطات المنجزة مؤخرا، يشد الانتباه ويبعث على الأمل بالنظر إلى أهميته من حيث الكم الهائل وتنوع الوثائق المكتوبة باللغة أو بالحروف العربية . ويقدر عدد المخطوطات في منطقة غرب إفريقيا وحدها بحوالي مليون ونصف مليون مخطوطة، منها حوالي 300 ألف مخطوطة في المناطق الشمالية من مالي، في حاضرة تمبكتو وفي مدن أخرى غيرها، بينما تتوزع أكثر من مليون مخطوطة على كل من موريتانيا والسنغال وغينيا وتشاد والنيجر ونيجيريا.. وقد كتبت جل تلك المخطوطات باللغة العربية أو بلغات أفريقية محلية مثل الهوسا والفولانية على وجه الخصوص، وذلك باستخدام نسخة أفريقية من الأبجدية العربية تعرف محليا بـ “الحرف العجمي”.
ومن المعروف بأنه يوجد إنتاج أدبي هائل مخطوط بـ “الحرف العجمي”، وهو كما قلنا عبارة عن حرف عربي تم تهْجينُه إما في إطار اللهجة الفولانية التي تمتد من نهر السنغال إلى شمال نيجيريا وشمال الكاميرون، أو في إطار لهجة الهوسا في شمال نيجيريا، وجنوب النيجر، وهي اللغة الأفريقية الأولى في عدد المتحدثين بها، أو في اللهجة الولوفية كما في السنغال المجاور، وكذا في اللهجة السواحيلية بمنطقة شرق أفريقيا، وفي العديد من اللغات الملغاشية والأفريقية المحلية الأخرى.
ولا شك بأن لأساليب الخط والكتابة المعتمدة في إفريقيا المسلمة خصوصيتها المحلية رغم قربها من تلك المستخدمة في المغرب الكبير أو في مصر والمشرق العربي عموما.. ويعكس ذلك بجلاء تطور رسم هذا النوع من الحروف وأنماط ومنحنيات خطوطها البيانية، كما تظهر في الكتابات بشمال نيجيريا التي غالبًا ما يتم فيها وضع الرسوم البيانية والزوايا بشكل رأسي وأفقي متميز، يصفه بعض الباحثين مثل بيفار، بالخط الكوفي الإفريقي، الذي يصنفه على أساس أنه “نمط خط قرآني تقليدي نموذجي لمنطقة الهوسا – خاصةً منطقة كانو – بحيث يمكن اعتباره ممثلاً لخطها. “
لكن، وكما يتضح من المسار التاريخي والسياسي للمنطقة، فقد تسارع الميل منذ حقبة الاستعمار الأوروبي، إلى التخلي عن الحروف العربية لصالح الحروف اللاتينية. وقد ظهر ذلك الميل خاصة في كتابة اللغة السواحلية، كما يشير إلى ذلك الباحث هانويك في مقدمة مؤلفه على الكتابات العربية في نيجيريا.
إذَنْ.. والحال هذه، سيكون أمام الباحثين العرب والمستعربين الكثير من العمل وبذل الجهود من أجل التعرف على هذا المخزون الهائل من التراث المعرفي الإفريقي المكتوب باللغة العربية أو بحروفها بما فيها “الحرف العجمي”.. والعمل على استكناه محتوياته وكشف أسراره.. واستقراء المعطيات العلمية المختلفة التي يحتفظ بها هذا التراث المشترك والإستفادة منها معرفيًا في مجالات عديدة مثل الكوديكولوجيا أو علم المخطوطات، والأنتربولوجيا والسوسيولوجيا، وغيرها من المجالات المعرفية المفيدة..
ولا شك بأن مهمة الإحاطة بهذا التراث المشترك بين أمم وشعوب المنطقة، واستنطاقه من منطلق العلوم الإنسانية وعبر مقاربات ابستيمولوجية ونقدية منفتحة ومرنة، ربما ستفتح آفاقا هائلة أمام أجيال الباحثين من أبناء المنطقة.. وستمنحهم فرصا أخرى للتفكير في تنسيب وترشيد هوياتهم وتثمين مشتركاتهم، وتساعدهم على بلوغ مراحل لاحقة من الوعي والتفكير في الفعل والممارسة بما يعزز آفاق العيش المشترك.. ويستجيب لمقتضيات المصير الواحد..